الطهرانية والدنس

#الطهرانية_والدنس
مقال الإثنين: 15 / 9/ 2025

بقلم: د. #هاشم_غرايبه
أغلب معادي الدين يظنون أن المتدين شخص ساذج ضحل الثقافة، وبالمفهوم العامي (على البركه)، أي يمكن التلاعب بعقله، لذلك يحاولون تبرير ممانعتهم لتطبيق منهج الله في نظام الحكم، بادعاء الغيرة على الدين، والقول بأن الدين يعني الطهرانية والترفع عن المنافع الدنيوية، لذلك فهم بمناداتهم بإبعاده عن السياسة فهم يشفقون عليه من أن تلحق به النجاسة ويناله الدنس.
بالطبع فقولهم حق لكن يراد به باطل، لذلك لا ينطلي على أحد.
في حقيقة الأمر، فالطهرانية والدنس هما فعلان نقيضان من صنع الانسان، لذلك فهما نسبيان، تتحكم فيهما مفاهيمه وقيمه، التي تتباين بين جماعة بشرية وأخرى، ويخضعان للتطور بحسب مصالح ومعارف تلك الجماعة.
لذلك لا يمكن التوافق في المناهج البشرية على القيم المطلقة التي تضع قواصل محددة للتمييز بين الأمرين، ما يحدد ذلك هو الدين فقط، من هنا جاءت تشريعاته بتوصيف واضح حدد معايير الاستقامة بأنها الصراط المستقيم، وبمقدار الانحراف عنه ينال الانسان الدنس.
وبما أن الله خلق الإنسان كائنا مكلفا بتحكيم عقله، وسطا بين الملائكية (الطهرانية)، والحيوانية (الشهوانية)، لذلك جعل فيه النقائص المدنسة، مثلما جعل فيه الميل الى الكمال المطهر، لكي يبلو المرء ويرى الى أي الاتجاهين تكون سلوكاته.
لذلك سمى الله الملائكة مطهرين، أي هم مخلوقون بهذه الصورة، فيما أثنى على البشر الذين لديهم ميل للطهارة ويسعون اليها في سلوكاتهم، فسماهم متطهرين: “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ” [البقرة:222]، ونلاحظ أن الله تعالى جاء بصفة المتطهرين تالية للتوابين، ليدلنا على أن الطهارة ليست صفة غالبة في النفس، بل تتحقق عندما يتبع المرء الهوى والرغبة فيناله الدنس، لكن المؤمن المتقي يتميز بأنه سرعان ما يندم فيتوب الى الله ليطهر نفسه.
والله يعلم أن ذلك شاق فيه مجاهدة للنفس، ولا تتساوى النفوس في مقدار تحملها له، لذلك رحمة بعباده خفف عليهم، فلم يطلب منهم تحقيق الطهرانية كاملة: “الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ” [النجم:32]، فاقتصر بما عليهم تجنبه كلية بالكبائر: “إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا” [النساء:31]، والتي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيّنها بمسمى السبع الموبقات: “اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات.”
من ناحية أخرى، فالعمل في السياسة لا يفترض فيه أن يكون مدنسا، لأن الأصل فيه أن يكون المرء مهتما بالعمل العام الذي فيه خدمة للآخرين، ودائما ما يكون هؤلاء ممن لديهم قدرات متميزة بالجلد وسعة الصدر، كما أن لديهم امكانات إدارية أكبر من أن يقتصرها على تلبية متطلباته ومن يعولهم، بل تتعداها الى تلبية احتياجات المحيط الأوسع، ففي مكان عمله ينبري للدفاع عن حقوق زملائه، أو على نطاق المدينة فيعمل كرئيس بلدية على خدمتها، أو الوطن الذي يقطنه من خلال موقعه كنائب او وزير، وعندما تتوفر لديه قدرات فكرية تصل طموحاته الى خدمة الأمة الي ينتمي إليها من خلال كونه مصلحا، ومن كانت قدراته تتعدى لخدمة البشرية جميعها اختاره الله رسولا.
إذا فالسياسة ليست دنسا، بل يفترض بممتهنها أنه نذر نفسه لخدمة الآخرين، فعليه أن يكون إنسانا معطاءً خيّراً، لكن ما جعلها تتسم بالخسة وسوء الأخلاق، هو سيطرة حكومة العالم الخفية (الماسونية) على مراكز القرار في الدول المهيمنة والمتحكمة في سياسات العالم، ولأنها تستخدم أساليب دنيئة لإيصال من ينفذون سياساتها بالمحافظة على مصالح القوى الاحتكارية، فقد أصبح الخبث والمخادعة السمة العامة لهؤلاء الساسة الذين استنبتتهم وهيأتهم لشغل تلك المناصب.
إن إغفال تشريعات الدين لتفصيلات النظام السياسي، فيما فصل في أمور لن تتغير، مثل الإرث والزواج والطلاق..الخ، جاء لآن البشرية ستتطور مفاهيمها في هذا المجال عما كان سائدا زمن التنزيل، لذلك لم يرد الله تعالى الزام أمته بقالب محدد، يصعب استيعابه وتطبيقه في ظروف قلة نسبة المتعلمين وضعف وسائل التواصل والاتصالات بل تركه متاحا للاجتهاد وفق مقتضيات كل زمان.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى