الربيع العربي… لماذا نصل دائمًا إلى الباب الصحيح في التوقيت الخطأ؟

#الربيع_العربي… لماذا نصل دائمًا إلى #الباب_الصحيح في التوقيت الخطأ؟

بقلم: أ. د. محمد تركي بني سلامة

منذ اللحظة التي خرجت فيها الجماهير العربية تهتف للحرية في شوارع تونس والقاهرة ودمشق وصنعاء، بدا وكأن صفحة جديدة كُتبت لتوّها في تاريخ المنطقة. صفحة قالت لنا إن الشعوب تريد حقًا أن تعيش بكرامة، وإن الأنظمة مهما بدت راسخة فهي قابلة للارتباك عند أول اختبار حقيقي. لكن ما لم يدركه الكثيرون، هو أن ديمقراطيتنا القادمة كانت – وما تزال – أشبه بموعد غامض: نحدّد له الوقت والمكان، لكنه لا يحضر أبدًا.

فالتحول الديمقراطي في دول الربيع العربي ليس مجرد أزمة سياسية عابرة، بل هو اصطدام مباشر بالبُنى العميقة التي تحكم الدولة والمجتمع. نحن أمام أزمة شرعية تتنقّل بين القبيلة والطائفة والعائلة الثورية والجنرال العسكري، بينما يبقى الشعب – المفترض أنه مصدر السلطات – آخر من يُسأل. وفي ظل هذا الارتباك، يصبح انتقال السلطة حدثًا مرعبًا للنظام، وكارثة محتملة للدولة، ومفاجأة غير سارة للمجتمع. وهكذا يتجمد الزمن السياسي كلما غاب زعيم أو ظهر طامح جديد.

ولأن السياسة في العالم العربي لا تكتمل دون حضور الجيش، ظلّت المؤسسة العسكرية اللاعب الأكبر في لعبة يفترض أن تكون مدنية. الجيش الذي تأسس لحماية الحدود، تحوّل بمرور الزمن إلى الحاكم والدستور وصانع الشرعية. لا يخرج من السياسة إلا ليعود إليها، ولا يدخل إليها إلا ليُبقي باب التداول السلمي للسلطة موصدًا. ولعلّ أكبر مفارقة كشفها الربيع العربي هي أن الديمقراطية في نظر بعض الجيوش “تهديد للأمن القومي”، بينما الانقلابات “تصحيح للمسار”.

ثم يأتي الاقتصاد الريعي ليضيف نكهته الخاصة إلى المشهد. فالدول التي تستطيع شراء الولاءات لا تحتاج إلى بناء مؤسسات قوية، ولا إلى أحزاب، ولا إلى مساءلة. يكفي أن يتدفق الريع حتى تصبح الدولة “أبًا كريمًا” والمواطن “تابعًا مطيعًا”. في مثل هذا الاقتصاد، لا مساحة للنقاش حول العدالة أو الكفاءة أو الشفافية؛ فالمحاسبة رفاهية غير مرغوبة، والشفافية قد تُربك النظام العام. وبذلك يصبح التداول السلمي للسلطة أمرًا لا يخدم أحدًا سوى المواطن… وهو للأسف أقل الفاعلين تأثيرًا.

ومع هذه البُنى القائمة، تبقى الثقافة السياسية عائقًا كبيرًا. فما زال المجتمع العربي يتعامل مع السلطة بمنطق العاطفة لا القانون. نُقدّس الزعيم حينًا، ونثور عليه حينًا آخر، لكننا لم نصل بعد إلى قناعة جماعية بأن الدولة مؤسسة لا مزرعة شخصية، وأن الحكم عقد اجتماعي لا هبة من السماء. وفي ظل هذا الوعي المتذبذب، تصبح الديمقراطية مطلبًا عند الخسارة، وعبئًا عند الوصول إلى الحكم، وكلمة جميلة تُرفع في المظاهرات لكنها تختفي في أول اختبار.

أما المجتمع المدني، الذي يُفترض أن يكون رافعة التغيير، فهو إمّا محاصر بالتشريعات، أو مرهق بالتمويل، أو مستنزف بالصراعات الأيديولوجية. فلا يستطيع أن يلعب دوره كوسيط بين الدولة والمجتمع، ولا كقوة ضغط، ولا كمساحة لحماية الحقوق. ومع ضمور هذا الدور، يتحول المجال العام إلى مواجهة مباشرة بين السلطة والشارع، بلا توازنات ولا ضوابط.

وإذا جمعنا كل هذه العناصر – الشرعية المربكة، الدور السياسي للجيش، الاقتصاد الريعي، الثقافة التقليدية، المجتمع المدني الهش – نصل إلى نتيجة واحدة: الديمقراطية في العالم العربي ليست مستحيلة، لكنها معقّدة، مؤجلة، ومحاطة بحواجز تجعل الطريق إليها طويلًا وشائكًا. ومع ذلك، لم تُغلق النافذة تمامًا؛ فالتجارب الكبرى لا تُبنى في يوم، والديمقراطية ليست حدثًا بل مسارًا، ولا يمكن لأي نظام أن يصمد طويلًا دون إعادة تعريف شرعيته على أساس المشاركة والمحاسبة.

ورغم السخرية التي تفرضها الوقائع، يبقى الأمل قائمًا. فالشعوب التي خرجت إلى الشوارع مرة، قادرة على الخروج مرة أخرى، والأنظمة التي قاومت التغيير عقودًا ستُدرك في النهاية أن بقاءها مشروط بإصلاح نفسها. ومع كل التعثرات، يظل الربيع العربي بداية وليس نهاية، ومحاولة أولى ستتبعها محاولات أخرى إلى أن تتحقق تلك اللحظة التي طال انتظارها: لحظة أن نحضر نحن… ويحضر معنا المستقبل أيضًا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى