الدين والسياسة

#الدين_والسياسة

د. #هاشم_غرايبه
مقال الإثنين: 14 /10 /2024


السياسة كمفهوم يُعنى بالحكم وادارة الشؤون العامة للناس معروف منذ تأسست الدول، لكنه لم يكن يعالج كيفية اختيار السلطة الحاكمة للدولة، إذ كان الحكم قديما محصورا في عائلات تتوارثه، باعتبارها سليلة الآلهة أو وكيلتها في الأرض، ولا يعرف من أين اكتسبت عائلات محددة ذلك الانتساب، ويعتقد أنه تولد نتيجة بطولات أوأعمال حربية خارقة نسبت الى أشخاص، فتكوّن شعور لدى العامة بأن هؤلاء هم مبعوثو العناية الإلهية فلم يعترض أحد على تسليمهم الحكم لأبنائهم من بعدهم.
عندما أنزل الله رسالاته السماوية الأولى، لم يكلف الرسل بما لا يطيقون من تصادم مع السلطات الحاكمة، فاكتفوا بالدعوة الى التوحيد التي ستؤدي جدليا الى رفض ألوهية البشر، لذلك حاربهم المتسلطون واصحاب الامتيازات (الطبقة البرجوازية)، فما آمن معهم الا قليل.
بعد تطور البشرية وتقبلت فكرة الديموقراطية النقيضة لمفهوم العائلات المالكة، قدر الله أن ذلك أوان إكماله للدين بالرسالة الخاتمة، فأنزلها محتوية على جميع التشريعات المنظمة لسلوك الأفراد ولحياة المجتمعات، وللعلاقات البينية بين المجتمعات البشرية المختلفة، وذلك هو مفهوم السياسة بشمولية.
من هنا فالقول بالفصل بين الدين والسياسة، جاء لتجريد الدين من مضمونه الحقيقي، وتعطيل لمنهج الله الذي أراده ضابطا وحاميا لحقوق البشر، لذلك ليس مستغربا أن من تبنى ذلك الفصل هم المتسلطون سياسيا، والمحتكرون للمال اقتصاديا، والزعامات الاجتماعية المنتفعة من الامتيازات.
وبدا تنفيذ الفكرة عمليا على يد “قسطنطين” في القرن الرابع، عندما تحول من مطاردة أتباع المسيح عليه السلام، الى تبنيهم بسمى المسيحيين، وللسيطرة عليها أنشأ المؤسسة الكنسية البابوية كمرجع وحيد للدين، فبدأت بتجريد الدين من تشريعاته الضابطة لسلوك الأفراد (والتي هي أحد مهام السياسة)، وأبقت له الطقوسيات والتحلي الاختياري بالأخلاق، من غير التدخل بشؤون السلطة الحاكمة، ثم بعد طغيان الطبقة الرأسمالية بعد الثورة الصناعية، ولتحرير أساطينها من أية ضوابط قانونية أو أخلاقية، جاءوا بفكرة العلمانية، التي فرض تطبيقها عالميا بحجة احقاق الحقوق لجميع المواطنين بغض النظر عن معتقدهم.
لكنه شعار براق زائف، ولا يطبق الا انتقائيا ومجزوءا، بدليل أن أكثر دولة تتبناه وهي فرنسا، لا تعطي الحقوق الا لمن يتبنى معتقدها الديني، وتحاصر وتضايق أتباع المعتقد الآخر.
في الحقيقة والتطبيق، فإن تشريعات منهج الله فقط، هي التي ترسي مبدأ العدالة والمساواة بين المواطنين، وحتى في علاقات المجتمع المسلم مع المجتمعات الأخرى، وبتشريعات ثابتة مدونة في كتاب الله، وليست كتشريعات البشر التجريبية المتبدلة والمتغيرة بحسب أهواء السلطة الحاكمة.
لذا فالإسلام أسس للمبادئ التي تدعي العلمانية أنها ابتكرتها، وقبلها بعشرة قرون، فجعل لمن اتبعه ولمن رفضه حقوقا وواجبات ثابتة، وطبقها عمليا، فلم يُكره أحدا على اتباعه، ولا صنف من يخالف معتقده ارهابيا، يبقى في دائرة الاتهام الدائم، بأنه يُخلّ بأمن المجتمع، فتنتهك خصوصيته بوضعه تحت المراقبة الكاملة.
كما أن الإسلام سبق الديموقراطيات الأوروبية في إرساء مبادئ الحكم الرشيد، القائم على تعددية الرأي داخل السلطة الحاكمة، ففي الوقت الذي كانت تتبجح فيها الامبراطوريات الأوروبية بوجود ممثلين عن الشعب (برلمانات) مهمتها مراقبة السلطة الحاكمة، كان الحاكم عندهم يحيط نفسه ببطانة لا رأي لها إلا إن سألها ووافقته، ولا يلزم باتباعه ان خالف رأيه، وهذا هو الاستبداد بعينه، وأما مراقبة البرلمان فهي شكلية لا قيمة لها، فلا يسأله عما يفعل، ولا يحاسبه إن أخطأ.
في الدولة الإسلامية الأولى، ورغم أن الحاكم نبي مرسل، مرجعيته الوحي الإلهي الذي لا يخطئ، فقد أمره الله تعالى بأن يرسي مبدأ الشورى في الحكم، لكي يتبعه من سيجيء بعده: “وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ” [أل عمران:33]، ولترسيخ ذلك عمليا بالتطبيق، فقد قدر الله حدوث أمور كان فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم رأي اعتقده صائبا، لكنه عدل عنه الى رأي مستشاريه بعد أن رآه أصوب، مثل حادثة نزول ماء بدر وتأبير النخيل وغيرها.
إن مناط العقيدة هو احقاق حقوق البشر المكرمين من خالقهم، فهي التي تحميهم من الجبابرة والطغاة، ولا ضابط للحكم أمثل من تشريعات الدين.
فصل الدين عن السياسة، هو الوسيلة الوحيدة المتبقية لمعادي منهج الله لمحاصرته بعد أن عجزوا عن اجتثاثه.

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى