
الحــلاق
عبقري ، ذلك الذي أطلق المثل الشعبي الذي يقول :
” قلة الشغل بتعلم التطريز ” ، لكن خياله – سواء كان فرداً أم جماعة – لم يسمُ ليصل إلى درجة التنبؤ بأن قلة الشغل تعلم أصول الحلاقة أيضاً .
دكان أبي ذات باب عملاق يحرس عدة مطربانات فارغة ونصيّة حلاوة ، وبرميل كاز ، ناهيك عن ماكنة حلاقة يدوية ذات مشطين ، الأول ” نمرة “1” – أي على الصفر البتة – والآخر نمرة “3” – أي حلاقة إفرنجي – ولم اسمع أو أشاهد حتى الآن نمرة “2”. ورغم سوء الدكان وبؤسها إلا أن أسوأ ما فيهاكان تلك الآلة الحمقاء ، …. ماكنة الحلاقة .
كان الوالد يذهب إلى الدكان صباحاً متوكئاً على عصاه بدافع من القصور الذاتي فحسب ، إذ أن كامل بضاعة الدكان ( مع السدّة ) لا يزيد ثمنها عن العشرين نيرة على الأغلب ، ولم يكن يقلق والدي ان لا يدخل ولا ( دومري ) إلى الدكان طوال اليوم ( كلمة دومري نستخدمها في مادبا للدلالة على لا أحد، ولا اعرف اشتقاقها اللغوي ولا معناها الحرفي ) . لم يكن يقلق أبي حجم المبيعات ولا الديون المتراكمة ولا انعكاسات سياسة صندوق النقد الدولي على ميزان مدفوعاته . الهاجس الوحيد الذي كان يعاني منه الوالد هو أن نتهرب – أخي وأنا – من المرور على الدكان في فرصة الساعة العاشرة من المدرسة القريبة من ( سوبر ماركت ) البابا : ( ميخائيل تاون ) .
ما الذي يقلق أبي ..؟ أنها قلة الشغل التي جعلته يدمن على حلاقة رؤوسنا يومياً -بدون مبالغة – عدا أيام العطل والأعياد الدينية والرسمية، طبعاً .
القدر جعلنا ندرك القيمة النقدية للعملة في مراحل متأخرة ، وكنا قبل ذلك ما نزال في مرحلة المقايضة … أقصد مقايضة أبي حبة الحامض حلو مقابل السماح لحضرته بحلاقة الرأس نمرة (3) . اقسم ان العملية كانت صعبة جداً خصوصاً بماكينة بادحة الشفرة و ( مغطوطة ) بالكاز طوال الليل ، وهي تتأهب لنتف جواعد رؤوسنا . ولربما يعود الفضل لغزارة كشتي حتى الآن ، بعد أن تجاوزت الأربعين إلى تلك الآلة الحقيرة .
أخي، كان يستسلم بمتعة إلى تلك المصيبة ، حتى أطلق عليه الأولاد في الحارة لقب ( ابو دبسة ) ، أما أنا ،فلم أكن أطيق الحلاقة ( حتى الآن ) واعتبرها عذاباً كبيراً وصفقة خاسرة إذا قارنتها بحبة الحامض حلو أو ملعقة الحلاوة بزيت ( السيرج ).
تخيلوا إني كنت احلق باستمرار ، والشعر يملأ أنفي وخياشيمي وعيوني ورقبتي طوال الوقت، بينما اتحكحك مثل البعير المجروب كل ذلك من اجل ان يمارس أبي هواياته في فن تعلم الحلاقة على الناشف .
ونظراً لمقاومتي الشديدة ، ومحاولاتي الدؤوبة للتهرب من دفع ضريبة الحامض حلو ، فقد ابتكر الوالد طريقة يسهل بها على جنابه القبض على جنابي ، إذ وضع حبات الحامض الحلو في مطربان ضيق تدخل فيه الكف الفارغة بسهولة ولا تخرج إلا بصعوبة في حالة الرغبة بالفوز ببضع حبات من ( الحثّان ) . وهكذا كان الوالد يفشل مخططاتي في محاولات التهرب من الحلاقة ، وما كانت نفسي تطاوعني في إلقاء حبات الحامض حلو إلى قعر المطربان مرة أخرى .
يعقوب النحاس استعار تلك الآلة الجهنمية من الوالد على ان يعيدها في اليوم ذاته ، لكنه – ولسعادتي – لم يعدها حتى الآن .. وهذا الأمر جلب عليه لعنات الوالد المستمرة وبركاتي الدائمة ، لا بل، ما زلت اعتقد أنه من الأبرار الذين يحق لهم دخول الجنة والجلوس على يمين ألآب .
هكذا تخلصت من تراجيديا الحلاقة لأنتقل إلى ( ملاّك ) الحلاق ” ابو صالح ” الذي كان أكثر رحمة من الوالد .. ونظراً أن الحلاقة كانت تكلف ( مصاري ) فقد كف الوالد عن هوايته ، وصار يحلق لنا مرة واحدة في الشهر فقط على سبيل المتعة(متعته) .
أما أبي فقد اعتزل الحلاقة وتفرغ لهواية جديدة ، وهي ( كشّ) الذبان عن المطربانات باستخدام كافة الوسائل المبتكرة .
الآن أنا أطيل شعر رأسي قدر ما أستطيع ، وأنا بانتظار يعقوب نحاس آخر يسرق الماكنة من يد حلاق الجويدة .
من كتابي (برج التيس)الصادر عام1999