سواليف
أجْرَى العاهِل السعوديّ الملك سلمان بن عبد العزيز تغييراتً أمنيّةً ووزاريّةً كانَت لافتَةً نَوعيًّا وزَمنيًّا، أثارَت العَديد مِن علامات الاستِفهام حول الهَدف الحَقيقيّ مِنها، والخُطوات المُقبِلة التي يُمكِن أنْ تتلوها، على العَرش ووِلايَة العَهد.
ظاهِريًّا كانَ التَّغيير الأبْرَز هو إقالَة السيد عادل الجبير مِن وِزارَة الخارجيّة، وتعيين إبراهيم العساف، وزير الماليّة السابق، والمُعتَقل السابق بتُهمَة الفساد في فندق “الريتز كارلتون” مَكانه، وكذلك إعفاء تركي آل الشيخ الشخصيّة المُثيرة للجَدل مِن مَنصِبه كرئيسِ الهيئة العامّة للرياضة ونَقْلِه إلى الهيئةِ العامّةِ للتَّرفيه، ولكنّ التَّغييرات الأهَم في رأيِنا كانَت في المَناصِب الأمنيّة، ونُشير بشَكْلٍ خاصٍّ إلى تَعيينِ الأمير عبد الله بن بندر بن عبد العزيز وَزيرًا للحَرس الوطنيّ، الجيش السعودي المُوازي، والسيد مساعد بن محمد العبيان مُستَشارًا للأمْن الوطنيّ، وخالد بن قرار الحربي مُديرًا للأمنِ الوطنيّ، وإعفاء الامير محمد بن نواف بن عبد العزيز مِن مَنصِبِه كسَفيرٍ للمملكة في لندن وتَعيينِه مُستشارًا في الديوان الملكيّ، وربّما جاءَ إبعادُ الأمير محمد بن نواف من سفارة لندن يعود إلى قُربِه من الأمير أحمد بن عبد العزيز الذي رفض مُبايعَة الأمير محمد بن سلمان وَليًّا للعَهد، وبات مُرشَّح بعض الأعْضَاء في الأُسرةِ الحاكِمَة كبَديلٍ لوليّ العهد باعتبارِه ثانِي أصغَر أبناء المَلك المُؤسِّس، ويَمْلُك خِبرةً طَويلةً في الحُكم، ومِن الجَناح السديري القَويّ، وكانَ السفير بصُحبَة الأمير أحمد عندما طالب مُتظاهِرين يمنيين بعَدم تحميل الأُسرة الحاكِمَة مَسؤوليّة الحَرب، وإنّما المَلك ووليّ عَهدِه.
كانَ لافِتًا أنّ الأمير بن سلمان احتَفَظ بجَميع مَناصِبه في الدولة، كوَليٍّ للعَهد، وزير الدفاع، نائب رئيس الوزراء، رئيس مجلس الشؤون الأمنيّة والسياسيّة، رئيس مجلس الشؤون الاقتصاديّة، أي جميع المَناصِب في الدولة، سواء كانَت هامَّةً أو ثانويّةً، سياسيّةً أو اقتصاديّةً، عَسكريّةً أو أمنيّةً، دِينيّةً أو عَلمانيّةً.
هُناك عِدَّة أهداف يَرغَبُ العاهِل السعوديّ مِن تَحقيقِها مِن هَذهِ التَّغييرات التي جاءَت بعد إعادَة هيكليّة جهاز الاستخبارات، وإعلان ميزانيّة سنويّة هِي الأضْخَم في تاريخ المملكة (تريليون ريال) تتَضَمَّن عَجْزًا مِقدارُه 35 مِليار دولار:
الأوّل: مُحاوَلة تغيير، أو تصحيح، صورة المملكة وهيبة الحُكم فيها، وهي الصُّورة التي تَضَرَّرت من عمليّة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، وتقطيع جثمانه، وكشفت عن سَذاجة وانعِدام خبرة في التَّطبيق، وغِياب كامل للمِهنيّة في إدارَة الأزَمَة سِياسيًّا وإعلاميًّا.
الثّاني: الإيحاء بإبعاد عناصِر مُهِمَّة في الدائرة المُقرَّبة مِن الأمير بن سلمان مِن مناصِبهم، مِثل عادل الجبير الذي اختارَه الأمير بن سلمان كوزيرٍ للخارجيّة (عام 2015)، أو تركي آل الشيخ رئيس الهيئة العامّة للرياضة الذي تسبَّبت سِياساته ومَواقِفه، خاصَّةً تُجاه بعض الأندِيَة المِصريّة (الأهلي) أو مُجاهَرته بعَدم التَّصويت للمغرب في مِلَف تنظيم كأس العالم 2026 بتَفجير أزمات مع الدَّولتين على الصَّعيدين الرسميّ والشعبيّ، ونقول الإيحاء لأنّ ما حَدَث هو “تَدويرٌ” لمَناصِب هؤلاء، أي بقاءَهم في الواجِهة مِن خِلال تَولِّي مناصِبَ أُخرَى.
الثَّالث: تَبَنِّي سياسة خارجيّة جديدة تقوم على تَهدِئَة الأزَمات، والتَّقارُب مع سورية ومِحوَرِها، والتَّعاطِي بشَكلٍ مُتوازنٍ مع أطراف الطَّيف السياسيّ والطائفيّ اللبنانيّ، وتحسين العُلاقات مع الأُردن والعِراق، والتَّمهيد للانسِحاب التدريجيّ مِن الأزَمةِ اليمنيّة، ورُبّما تَشكيلُ مَحاور جَديدة ضِد قطر وتركيا، وفتح قنوات حِوار مع العِراق وإيران، واختيار السيد العساف الرجل المُخَضْرم الذي يَتَّسِم بالرَّصانةِ والخِبرة، وعَمِل مع ثلاثة مُلوك وزيرًا للخارجيّة مُكَلَّفًا بهَذهِ المُهِمَّة:
هُناك قِراءتان، أو بالأحرى تَكَهُّنان، للخُطوة التي يُمْكِن أن تتلو هَذهِ التَّغييرات في الأَشهُر الأُولى مِن العامِ الجَديد:
الأُولى: تقول بأنّها ربّما جاءَت تَمْهيدًا لتَغييرِ وليّ العهد السعوديّ الأمير محمد بن سلمان، واختِيار وليّ عَهدٍ جَديدٍ، لتَخفيفِ الصِّدام مَع المُؤسَّسة الأمريكيّة الحاكِمَة، وخاصَّةً مجلس الشيوخ الأمريكيّ، بعد قرارِه الأخير الذي صَدَر بإدانته وتَحميلِه مَسؤوليّة اغتيال الخاشقجي بالإجْماع، ووَقفِ كُل الدَّعم للسعوديّة في حَربِ اليمن.
الثَّاني: أن يكون الأمير محمد بن سلمان الذي مِن المُؤكَّد وقوفه خَلف مُعظَم هَذهِ التَّغييرات، إن لم يَكُن كلها، باعتِباره الحاكِم الفِعليّ، يُمَهِّد لإعفاء والِدِه مِن الحُكم بحُجَّة المَرض، وجُلوسِه على العَرش، ووضع الأُسرةِ الحاكِمَة، وبعض مُنْتَقِديه في الدَّاخِل والخارِج أمام الأمْر الواقِع.
يَصْعُب علينا تَرجيح أيٍّ مِن هَذين الخَيارين، وإنْ كُنّا لا نَستبعِد الخِيار الثاني، أي تَولِّي الأمير بن سلمان العرش، لأنّ التقارير الطبيّة التي يَجرِي تسريبها عَن صِحَّة الملك سلمان تُؤكِّد أنّ حالته المرضيّة تَزداد سُوءًا، مُضافًا إلى ذلِك أنّ وليّ عهده مُتَمسِّك بمَنصِبه ويُهَدِّد بالمُقاوَمة حتّى المَوت لأيِّ مُحاوَلةٍ لإقصائِه مِنه، أو تقليص أيٍّ مِن صلاحيّاتِه، وغِياب أيّ تَهديد داخِليّ حَقيقيّ له حتّى الآن على الأقَل.
التَّغييرات السياسيّة شَكليّة وليسَت على دَرجةٍ كَبيرةٍ مِن الأهميّة، لكن الأمنيّة مِنها، خاصَّةً تغيير رئيس الحرس الوطنيّ، الجيش المُوازي، الذي قَد يُشَكِّل التَّهديد الأخْطَر عليه لأنّه رُبَّما يُمَثِّل نَظَرِيًّا الذِّراع الضَّارِب للمُعارَضة، ولجِناح العاهِل السعوديّ الراحل الملك عبد الله وأبنائِه وحُلفائهم، والشَّيء نفسه يُقال أيضًا عن تَعيين مُستشارٍ جَديدٍ للأمن الوطنيّ، وإعادة هيكليّة جِهاز الاستِخبارات العامّة مِن قبل لجنة بقِيادَة وليّ العهد، هِي التَّغييرات الأهَم التي تَعكِس إحكام قبْضَة الأمير بن سلمان علَيها، وسَد كُل الثَّغَرات التي يُمكِن أن تُشَكِّل مَصْدَرَ الخَطر على حُكمِه، أو طُموحاتِه بالحُكم على الأصَح.
نَتَوقَّع مُفاجَآت قادِمَة مِن السعوديّة التي لم تَعُد “مملكة الصَّمت” مِثْلَما كانَ يُطْلَق عليها في الماضِي، فوَليّ العهد شخص “مُغامِر” ولا يتَردَّد في اتِّخاذ القَرارات التي تتَّسِم بالخُطورة والتَّهَوُّر حسبَ آراءِ الكَثير مِن مُنْتَقِديه.. واللُه أعْلَم.
“رأي اليوم”