الأكوان المتعددة في القرآن الكريم والعلم الحديث
الدكتور منصور أبوشريعة العبادي\جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية
لقد أكد القرآن الكريم بشكل صريح وواضح في آيات كثيرة على وجود أكوان أخرى غير هذا الكون المشاهد الذي نعيش فيه وهي مأهولة بأنواع مختلفة من الكائنات العاقلة كما جاء في قوله تعالى “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)” الطلاق. ولقد أكدت الاكتشافات العلمية الحديثة في مجالي الفيزياء والفلك إلى احتمالية كبيرة بوجود أكوان أخرى غير كوننا هذا أطلقوا عليها أسماء مختلفة كالأكوان المتوازية (parallel universe) والأكوان المتعددة (multiverse) والأكوان اللانهائية (Infinite universes) والأكوان الفقاعية (Bubble universes) وغير ذلك من المسميات. ولقد كانت آخر المقالات العلمية التي كتبها عالم الفيزياء الانجليزي المشهور ستيفن هوكنج (Stephen Hawking) والتي نشرت بعد موته في عام 2018م تدور حول مسألة الأكوان المتعددة واثبت فيها أن عدد الأكوان ليس لانهائي كما كان يعتقد بل هو رقم محدود. وقد تم كذلك نشر عشرات الكتب عن الأكوان المتعددة من قبل علماء الفيزياء المرموقين أهمها كتاب عالم الفيزياء الأمريكي المختص بنظرية الأوتار ميشو كاكو (Michio Kaku) وعنوانه (العوالم المتوازية: رحلة عبر الخلق والأبعاد العليا ومستقبل الكون) (Parallel Worlds: A Journey Through Creation, Higher Dimensions, and the Future of the Cosmos) وكتاب عالم الفيزياء الأمريكي برين جرين (Brian Greene) وعنوانه (الحقيقة المخفية: الأكوان المتوازية والقوانين العميقة للكون) (The hidden reality parallel universes and the deep laws of the cosmos) والذي شرح فيه النظريات المختلفة للأكوان المتعددة والقوانين الفيزيائية التي تفسر وجودها. لقد نصت الآية السابقة على أن الهدف من إخبار الله عز وجل البشر بوجود سبع سموات وسبع أراضين هو أولا للتدليل على قدرته سبحانه وتعالى وثانيا لإقناع البشر بإحاطة علم الله عز وجل بكل تفصيلات هذا الكون (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا). وقد يقول قائل كيف يتسنى للبشر ان يتأكدوا من وجود سبع سموات وهم لا زالوا يجهلون كثير من مكونات السماء الأولى التي تحجب عن البشر بقية السموات التي تقع فوقها! والجواب هو أن الطريقة التي أرادها الله عز وجل للبشر للتأكد من وجود هذه السموات هو أولا من خلال استخدام هذا العقل العجيب الذي صنعه الله سبحانه لهم وثانيا أنه سبحانه خلق جميع مكونات هذا الكون وفق قوانين فيزيائية محددة وعلى مدى فترات زمنية محددة يمكن للبشر الاهتداء إلي مراحل خلقها من خلال البحث العلمي.
وهذا ما تم بالفعل فلقد أكدت الاكتشافات العلمية الحديثة والمتعلقة بالأحداث التي مر بها الكون منذ نشأته للبشر إحاطة علم الله عز وجل لما جرى ويجري في كونه كما أخبر عن ذلك سبحانه وتعالى في القرآن الكريم وكيف لا وهو القائل “أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)” الملك. إن أول أهم هذه الإكتشافات هو أن لهذا الكون بداية محددة بينما كان البشر في شك من ذلك كما جاء في قوله تعالى “أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)” العنكبوت. أما الثاني فهو أن هذا الكون ظهر للوجود نتيجة انفجار كوني عظيم وهو ما أشار إليه القرآن الكريم من أن السموات والأرض كانتا كتلة واحدة ثم انفتقت ليخرج من هذا الكون الهائل وذلك في قوله تعالى “أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)” الأنبياء. أما الثالث فهو أن المادة الأولية التي بنيت منها السموات والأرض كانت على شكل سحابة ضخمة من الجسيمات الأولية أو الدخان كما جاء في قوله تعالى “ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)” فصلت. أما الرابع فهو أن عملية خلق الكون تمت على مدى فترة زمنية محددة كما جاء في قوله تعالى “وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)” ق. أما الخامس فهو أن أبعاد هذا الكون غاية في الضخامة بحيث أنه سبحانه أقسم بمواقع النجوم وعقب سبحانه على القسم بأن البشر لو قدر لهم معرفة أبعاد مواقع النجوم لأدركوا عظمة هذا القسم وذلك في قوله “فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)” الواقعة. وأما السادس فهو أن الكون في توسع مستمر وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى “وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)” الذاريات. وأما السابع فهو أن الكون المشاهد هو واحد من أكوان متعددة لم يتمكن علماء االفيزياء من تحديد عددها حتى الآن بينما حدد القرآن الكريم وجود سبعة أكوان وهي السموات السبع كما جاء في قوله تعالى “فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)” فصلت. أما الثامن فهو أن الأكوان لها نهاية كما كان لها بداية وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم في قوله تعالى “يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)” الأنبياء. وأما التاسع فهو أن الحواجز بين الأكوان المختلفة مكونة من أقطاب مغناطيسية أحادية القطبية وهي من أثقل الجسيمات التي تنبأ العلماء بوجودها وهو ما أكد عليه القرآن الكريم في قوله تعالى “وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)” النبأ.
السموات السبع والعرش في المعتقدات المختلفة
رغم أن التوراة قد ذكرت في سفر التكوين أن الله عز وجل قد خلق في البدء السموات والأرض إلا أنها لم تذكر أي شيء عن عدد هذه السموات ولا عن طبيعتها ولا عن من يسكنها. فالتوراة لم تذكر هذه السموات إلا في موضعين اثنين وذلك في الإصحاح الأول من سفر التكوين دون أن تحدد عدد هذه السموات بل إن التوراة عندما جاءت على ذكر الأحداث التي جرت في أيام الخلق الستة لم تأتي على ذكر إلا سماء واحدة فقط. ولكن جاء في التلمود ذكر لسموات متعددة تترواح بين سمائين وعشر سموات وذلك بناء على نصوص وردت في الكتب السماوية التي أوحيت لانبياء بني إسرائيل. وعلى هذا فاليهود غير متفقين على عدد السموات ولا على خصائصها. أما الأنجيل فلم يأتي أيضا على ذكر عدد السموات ولا يعتقد أغلب المسيحين بوجود سبع سموات ولكن يؤمنون بمكان علوي لله عز وجل ومسكن للأرواح. وقد جاء في الديانات الهندوسية والزرادشتية أو المجوسية ذكر لأكوان أخرى غير كوننا حيث حددت عدد العوالم العلوية بسبع والعوالم السفلية كذلك بسبع. ولم تأتي جميع هذه الديانات كذلك على ذكرالكرسي والعرش واستواء الله عز وجل عليه حيث تفرد بذكره القرآن الكريم وكذلك صحيفة إدريس السلوفاكية.
إن الكتاب المقدس الوحيد الذي يتوافق مع القرآن الكريم بوجود سبع سموات وسبع آراضين وأنها ظهرت إثر انفجار كوني عظيم وكذلك وجود عرشا للرحمن هو إحدى صحف إدريس عليه السلام وهي التي عثر عليها في سلوفاكيا في نهاية القرن التاسع عشر وهي غير صحيفة إدريس الأثيوبية. وهذه الصحيفة مترجمة عن أصل يوناني يعتقد أنه قد كتب في بداية القرن الأول الميلادي. وقد قام الباحث في الدراسات الروسية والسلوفاكية مورفيل (W. R. MORFILL) بترجمته إلى الإنجليزية ومن ثم قام بتحقيقه عالم اللاهوت في كلية الثالوث في دبلن روبرت شارلس (R. H. CHARLES). ولقد تم نشر الكتاب في عام 1896م تحت عنوان كتاب أسرار إدريس (THE BOOK OF THE SECRETS OF ENOCH). وجدير بالذكر أن محقق كتاب أسرار إدريس قد قال بسبب هذا التوافق العجيب لهذه الصحيفة مع القرآن الكريم أنه ربما قد وقعت نسخة من هذه الصحف في يد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام(Some form of the Slavonic Enoch seems to have been in Mohammed’s hands ( وذلك على الرغم من أنه سبق وأن قال في تحقيقه للصحيفة بأن هذه الصحف قد اختفت عن أيدي الدارسين لما يزيد عن ألف ومائتين عام!
وفي هذه الصحيفة شرح إدريس عليه السلام رحلته من الأرض إلى السموات السبع بصحبة ملكين واصفا ما شاهده في كل سماء منها ففي وصف السماء السابعة قال (وانتزعني الرجلان فآخذاني من هناك إلى السماء السابعة فرأيت نورا عظيما وجميع جيوش النور اللاجسدية من رؤساء ملائكة وملائكة وأوفانيم يقفون مشعين فخفت وارتعبت فاقتداني الرجلان وسطهم وقالا لي: تشجع يا أخنوخ (ادريس) ولا تخف وأرياني من بعيد الرب جالسا على عرشه وكانت كل جيوش السماء المجتمعة درجات تتقدم وتخضع أمام الرب ثم تتراجع وتمضي إلى مواضعها بفرح وابتهاج وبنور لا يقاس وكان المجيدون يخدمونه فلا يبتعدون في الليل ولا يتراجعون في النهار يقفون أمام وجه الرب ويصنعون مشيئته وكان كل جيم الكروبيم حول عرشه لا يبتعد عنه وذوو الأجنحة الستة يغطون عرشه وينشدون أمام وجه الرب) 20-21. إن هذا الوصف الدقيق لمشهد الملائكة وهم يحيطون بعرش الرحمن ويمجدونه ويقدسونه ويسبحونه ويسجدون أمامه تجد تصديقا له في القرآن الكريم في آيات كثيرة كما في قوله تعالى “فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) ” فصلت وقوله تعالى “وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)” الأنبياء وقوله تعالى “إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)” الأعراف وقوله تعالى “الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)” غافر وقوله تعالى “وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)” الزمر.
وجاء في الصحيفة أيضا شرح عن الأصل الذي خلقت منه السموات والأراضين حيث أن الله عز وجل قد أخبر إدريس عليه السلام عن أكبر أسرار هذه الكون وهو الكيفية التي نشأ بها الكون من العدم وهو سر لم يطلعه الله عز وجل حتى على أقرب ملائكته. ففي الفصل الخامس والعشرين شرح الله عز وجل لإدريس كيف أن الكون قد نشأ بعد أن أمر سبحانه ما أسماه أدويل(Adoil) بأن ينفجر لتخرج المادة التي خلقت منها جميع أجرام الكون (1 وأمرت في الأعماق بأن تخرج الأشياء المرئية من اللامرئية ومنها خرج أدويل (Adoil) الكبير جدا فنظرت إليه وحقا كان لونه أحمر بإشعاع عظيم 2. وقلت له: إنفجر متباعدا يا أدويل وليكن ما يخرج منك مرئيا. 3. فانفجر متباعدا وخرج مباشرة نور عظيم وكنت في وسط النور العظيم وبعد أن خرج النور من النور هنالك خرج الكون العظيم كاشفا جميع المخلوقات التي عزمت على خلقها ورأيت ذلك حسنا. 4. وصنعت لنفسي عرشا ثم استويت عليه وقلت للنور ارتفع عاليا فوق عرشي ولتكن أساسا لكل ما هو عالي 5. ولم يكن هناك ما هو أعلى من النور وعندما استويت رأيت النور من عرشي.). إن هذا النص لا يدع مجالا للشك بحدوث الإنفجار العظيم فهو نص واضح وصريح ومطابق لنظرية الإنفجار العظيم. ولا بد أن نشير إلى أن صحيفة إدريس السلوفاكية قد ظهرت وترجمت للغة الانجليزية قبل ظهور نظرية الانفجار العظيم بما يزيد عن ثلاثين عام مما يبعد أي شبهة حول محتوى الصحيفة. ونرى في هذا النص التطابق بينه وبين ما جاء في القرآن الكريم حول العرش واستواء الرحمن عليه كما في قوله تعالى “الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) ” الفرقان.
السموات السبع والعرش والكرسي في القرآن الكريم
لقد ورد في القرآن الكريم آيات قرآنية كثيرة تشير إلى كثير من الحقائق المتعلقة بنشأة هذا الكون وبنيته ومكوناته والظواهر التي تجري فيه ولم يتأكد صدق هذه الحقائق القرآنية لغير المسلمين إلا في هذا العصر الذي فتح الله فيه على البشر شتى أنواع المعارف ليتحقق بذلك قوله تعالى “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)” فصلت وقوله تعالى “وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)” النمل. إن أول هذه الآيات هي التي بينت الطريقة التي نشأ بها الكون من العدم وهي قوله تعالى “قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)” فصلت. إن هذه الآيات القرآنية مليئة بالحقائق العلمية المتعلقة بالأحداث التي مر بها خلق الكون منذ أن كان دخانا إلى أن أصبح على هذه الصورة التي هو عليها الآن. فلقد حدد القرآن الكريم المادة الخام التي بني منها هذا الكون وأطلق عليها اسم الدخان فقال عز من قائل “ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ”. ولقد تفرد القرآن دون بقية الكتب السماوية السابقة بذكر حقيقة أن مادة الكون الأولية كانت على شكل دخان وهو تعبير عن الجسيمات الأولية التي ملأت الفضاء الكوني بعد الإنفجار العظيم.
ولقد أشار القران الكريم بشكل واضح في ثلاث آيات قرآنية إلى حقيقة الانفجار الكوني العظيم وإلى حقيقة التوسع الكوني وكذلك إلى حقيقة انهيار هذا الكون في النهاية. فقد أشار القرآن الكريم إلى أن السموات وما تحويه من أجرام كانت كتلة واحدة ثم تفتفت جميع مادة هذا الكون من هذه الكتلة التي ملأت الكون بمادة دخانية وذلك مصداقا لقوله تعالى “أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)” الأنبياء. وممّا يؤكد على أن مادة هذا الكون قد جاءت نتيجة انفجار كوني ضخم هو إشارة القران إلى أن الكون في توسع مستمر والتوسع لا يتأتى إلا إذا بدأ الكون من جرم صغير وبدأ حجمه بالازدياد وذلك مصداقا لقوله تعالى “وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)” الذاريات. أما الآية الثالثة التي تؤيد صحة هذه الفرضية هو قوله تعالى “يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)” الأنبياء فإذا كانت الآية السابقة تشير إلى توسع الكون عند بدايته فإن هذه الآية تشير إلى انكماشه عند نهايته وسيعيد الله الكون إلى ما كان علية عند بدايته. لقد أجمع العلماء على حقيقة التوسع الكوني ولكنهم لم يتمكنوا إلى الآن من البت في الحالة التي سيؤول إليها الكون حيث يقول بعضهم أن الكون سيبقى في حالة تمدد إلى الأبد بينما يقول آخرون أنه سيأتي يوم تتغلب فيه قوة الجذب بين مكوناته على قوة الاندفاع الناتجة عن الانفجار فيعود الكون من حيث بدأ وينهار على نفسه.
أما الحقيقة الكبرى التي ذكرها القرآن الكريم وجاءت نظرية الكون المنتفخ لتؤكدها فهي حقيقة وجود أكوان أخرى غير الكون الذي نشاهده بأعيننا أو تصل إليه مراصدنا وما يسميه العلماء بالكون المشاهد. ولقد حدد القرآن الكريم عدد هذه الأكوان بسبعة أكوان وأطلق عليها اسم السموات السبع ولقد تكرر ذكر هذه السموات في آيات كثيرة في القرآن الكريم تبين بعض خصائصها. لقد كشف القرآن الكريم بعض خصائص هذه السموات السبع فذكر أولا أنها على شكل طبقات حيث تطبق كل سماء على السماء التي دونها ولا يكون ذلك إلا إذا كانت هذه السموات على شكل كرات مجوفة كل واحدة تحيط بالأخرى بحيث يكون مركز هذه الكرات هو المكان الذي حدث فيه الانفجار الكوني العظيم مصداقا لقوله تعالى “أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15)” نوح وقوله سبحانه “الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)” الملك وقوله تعالى “وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)” المؤمنون. وذكر القرآن كذلك أن في كل سماء من هذه السموات السبع أجرامها الخاصة بها لقوله تعالى “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)” الطلاق والقائل سبحانه ” لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)” المائدة.
ولقد وصف القرآن الكريم هذه السموات السبع بالشدة والمتانة وقد جاء هذا الوصف مطابقا تماما لما اكتشفه العلماء في نظرية الكون المنتفخ وهي أن الحواجز بين الأكوان المختلفة مكونة من أقطاب مغناطيسية أحادية القطبية وهي من أثقل الجسيمات التي تنبأ العلماء بوجودها ولكنهم لم يعثروا على أيّ منها حتى الآن في أجرام الكون المشاهد وصدق الله العظيم القائل “وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)” النبأ والقائل سبحانه “أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)” النازعات والقائل سبحانه “لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)” غافر. إن هذه الأبنية الضخمة والتي يبلغ نصف قطر أصغرها وهي السماء الدنيا ما يقرب من أربعة عشر بليون سنة ضوئية قد تم بناؤها في منتهى الإحكام بدون استخدام أعمدة تركتز عليها رغم ثقلها ورغم ما تحمل فوقها من أثقال لا يعلم ماهيتها إلا الله وصدق الله العظيم القائل “اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)” الرعد والقائل سبحانه “تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)” الشورى والقائل سبحانه “إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)” فاطر. وعلى الرغم من متانة هذه السموات فإنه سيأتي اليوم الذي تتشقق فيه هذه السموات عندما يأذن الله بذلك وذلك مصداقا لقوله تعالى “وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) ” الحاقة وقوله تعالى “يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)” المعارج.
ولقد أتى القرآن الكريم أيضا على ذكر أجرام قد خلقها الله في هذا الكون وهي أكبر من السموات السبع ككرسي الرحمن الذي يحوي في داخله هذه السموات السبع مصداقا لقوله تعالى “وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)” البقرة. إن حجم هذا الكرسي وما يحويه من السموات السبع لا تكاد تذكر مع حجم العرش الذي استوى عليه الرحمن سبحانه وتعالى فقال عز من قائل “قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)” المؤمنون . ولقد أشارت بعض الأحاديث النبوية الشريفة إلى الضخامة البالغة لهذا الكون الذي نعيش فيه ممّا جعل بعض الناس يشكك في صحة هذه الأحاديث بسبب المبالغة التي ذكرتها لأبعاد هذا الكون. فقد جاء في أحد هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ” سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني. ولقد تبين لنا بعد الاكتشاف العلمية الحديثة في مجال الفلك أنه لا يوجد أيّ مبالغة في الصورة التي حاولت الأيات القرآنية والأحاديث النبوية أن تعطيها لحجم هذا الكون. بل إن أسلوب القرآن الكريم كان في غاية الذكاء عندما حاول أن يبين للناس المسافات الشاسعة التي تفصل ما بين النجوم وذلك من خلال القسم بمواقعها ومن ثم أكد على أن هذا القسم عظيم فيما لو تمكن البشر من معرفة مقدار هذه المسافات فقال عز من قائل “فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)” الواقعة. وللتدليل على ضخامة هذا الكون فقد أشار القرآن الكريم إلى أن سفر بعض مخلوقات الله كالملائكة عبر هذه السموات يحتاج إلى آلاف السنين رغم سرعتها الفائقة كما في قوله تعالى ” يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)” السجدة وقوله تعالى “تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)” المعارج. وفي معراج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى السموات السبع لزم ركوب دابة سريعة جدا وهو البراق الذي اشتق اسمه من البرق لسرعته الفائقة كما جاء في الحديث الذي ورد في الصحيحين البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ ، طَوِيلٌ ، فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ) وذلك للتدليل على ضخامة أبعاد هذا الكون.
الأكوان المتعددة في العلم الحديث
تمكن العلماء في هذا العصر من كشف جميع القوانين الفيزيائية التي تحكم مادة الكون وعندما قاموا بتطبيق هذه القوانين على حالة الكون في اللحظات الأولى من ظهوره تبين لهم حقائق مذهلة عن الطريقة التي بني بها هذا الكون. إن أول هذه الحقائق هو أن هذا الكون بأجمعه ظهر للوجود نتيجة انفجار غاية في الضخامة انبثقت منه جميع مادة وطاقة هذا الكون. لقد ظهرت نظرية الإنفجار العظيم (the big bang) بعد أن قام الفلكي والرياضي الروسي الكسندر فريدمان في عام 1922م بإعادة حل معادلات النسبية العامة التي وضعها ألبرت أينشتاين في عام 6191م وتبين له أن الكون في حالة توسع دائم وذلك على عكس ما توصل إليه أينشتاين الذي أثبت أن الكون ساكن. وفي عام 1929م اكتشف الفلكي الأمريكي إدوين هابل (Edwin Hubble) بالاعتماد على قياس مقادير الإزاحة الحمراء (red shift) في الطيف المنبعث من أعداد كبيرة من المجرات أن البعيدة منها تنحسر بسرعات أكبر من القريبة ثم قام بوضع القانون المعروف بقانون هابل (Hubble’s law). إن مثل هذه الظاهرة لا يمكن تفسيرها إلا من خلال افتراض أن هذه المجرات قد انطلقت من مكان واحد في هذا الكون وتطايرت في جميع الاتجاهات. وفي عام 1931م اقترح القس البلجيكي جيرجس لامتير (Georges Lemaître) سيناريو للطريقة التي نشأ بها الكون وهو أنه قد ظهر نتيجة لانفجار ضخم (massive blast) لما يسمى بالبيضة الكونية (cosmic egg) والتي كانت تحتوي على جميع مادة وطاقة هذا الكون وقد أطلق على هذا الإنفجار فيما بعد اسم الانفجار العظيم (Big Bang).
وبناءا على هذه الفرضية بدأ علماء الفيزياء الفلكية بدراسة سلسلة الأحداث التي مر بها الكون منذ لحظة انفجاره إلى الآن وذلك بعد أن قاموا بتقدير كمية المادة والطاقة الموجودة في الكون في الوقت الراهن. لقد كان الكون عند ساعة الصفر على شكل نقطة مادية غاية في الصغر لها درجة حرارة وكثافة غاية في الكبر ويغلب على ظن العلماء أن مادة الكون كانت عند بداية الانفجار مادة صرفة ذات طبيعة واحدة وتحكمها قوة طبيعية واحدة. وبدأت هذه المادة الصرفة بالتمدد بشكل رهيب وبسرعات غاية في الكبر نتيجة لهذا الانفجار على شكل كرة نارية متجانسة. ومع إزدياد حجم هذه الكرة المتوسعة بدأت درجة حرارتها وكذلك كثافتها بالهبوط تدريجيا نتيجة لتوزع طاقتها على حجم أكبر. وبعد هبوط درجة حرارة هذه المادة لدرجة معينة بدأت الجسيمات الأولية كالكواركات واللبتونات والفوتونات بالتشكل من هذه المادة الصرفة وبدأت كذلك قوى الطبيعية الأربعة التي كانت موحدة في قوة واحدة بالانفصال عن بعضها البعض تدريجيا. ومع استمرار تناقص درجة الحرارة بدأت مكونات الذرة الأساسية وهي البروتونات والنيوترونات والإلكترونات بالتشكل من خلال اندماج أنواع الكواركات والليبتونات المختلفة مع بعضها البعض تحت تأثير القوى الطبيعية المختلفة. ومع إنخفاض درجة الحرارة إلى ما دون عشرة آلاف درجة بعد مرور ما يقرب من نصف مليون سنة من لحظة الإنفجار بدأت ذرات الهيدروجين والهيليوم بالتشكل من هذه الجسيمات. لقد بقي الكون حتى هذه اللحظة متجانسا ولكن في لحظة ما بدأت كثافة مادة الكون بالاختلال لسبب لم يجد له العلماء تفسيرا مقنعا وتكونت نتيجة لهذا الاختلال مراكز جذب موزعة في جميع أنحاء الكون. وبدأت قوة الجاذبية تلعب دورها بجذب مزيد من الهيدروجين المحيط بهذه المراكز إليها منشئة بذلك سحب ضخمة من الهيدروجين والهيليوم تدور حول نفسها على شكل دومات. ومن ثم بدأت هذه السحب الهيدروجينية الضخمة تنهار على نفسها بفعل الجاذبية ويتقلص حجمها وكذلك تزداد سرعة دورانها حول نفسها وذلك للحفاظ على طاقتها الحركية الكلية. وعندما وصل حجم الكرة المركزية إلى حجم معين ونتيجة للضغط الهائل على الهيدروجين الموجود في مراكزها ارتفعت درجة حرارته إلى ما يزيد عن ثلاثة ملايين درجة وهو الحد اللازم لبدء عملية الاندماج النووي بين ذرات الهيدروجين منتجة بذلك ذرات الهيليوم بالإضافة إلى كميات كبيرة من الطاقة فتكون بذلك النجوم ومن ثم المجرات.
أما الاكتشاف الذي أدى إلى الشك في وجود أكوان أخرى غير الكون المشاهد الذي نعيش فيه فهو ما يسمى بالكون المنتفخ. فعلى الرغم من أن نظرية الإنفجار العظيم قد رسمت صورة واضحة للطريقة التي نشأ بها هذا الكون وتمكنت من حل كثير من ألغازه إلا أن العلماء من خلال دراستهم للأحداث التي تمت في الثانية الأولى من الانفجار اكتشفوا بعض الثغرات فيها. ومن هذه الثغرات ما يسمى بمشكلة مسافة الأفق (horizon distance) وهي المسافة التي قطعها الضوء منذ لحظة الإنفجار العظيم حيث وجد العلماء أن حل معادلات النموذج التقليدي للانفجار العظيم قد أظهرت أن نصف قطر الكون المشاهد يزيد عن مسافة الأفق هذه بشكل كبير. أما المشكلة الثانية فهي مشكلة تتعلق بالتوزع المنتظم لمادة الكون في جميع أرجائه والتي لم يجد العلماء تفسيرا مقنعا له حيث أن خللا طفيفا في مادة الكون في اللحظات الأولى من الانفجار لا بد وأن يؤدي إلى كون غير منتظم على النطاق الواسع. أما المشكلة الثالثة فتتعلق بما يسمى تسطح الكون (flat universe) حيث أن الكون الحالي يبدو مسطحا وهذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا كانت كتلة الكون تساوي تماما الكتلة الحرجة (critical mass) التي تظهر في معادلات النسبية العامة. أما المشكلة الرابعة فتتعلق ببعض الجسيمات الثقيلة كالأقطاب المغناطيسية الأحادية (magnetic monopoles) والتي أظهرت الحسابات أن الكون في لحظاته الأولى أنتج كميات كبيرة منها ولو أنها كانت موجودة بالفعل لما كان الكون على الصورة التي هو عليها الآن إذا ما علمنا أن شدة المجال المغناطيسي لكل قطب من هذه الأقطاب المغناطيسية الأحادية تعادل شدة المجال المغناطيسي للأرض وأن كتلته تزيد برقم يساوي 10 مرفوع للأس 16 عن كتلة البروتون ولكن العلماء لم يعثروا على أي منها في الكون المشاهد.
وللتغلب على هذه الثغرات في نظرية الإنفجار العظيم بدأ العلماء بالبحث عن نماذج جديدة للطريقة التي تمت بها عملية الإنفجار الكوني علها تؤدي إلى نتائج تجيب على مثل هذه التساؤلات. وفي عام 1979م تمكن أحد الفيزيائين الأمريكيين وهو ألن كوث (Alan Guth) من معهد ماسوتشوتس للتكنولوجيا باستخدام فيزياء الجسيمات الأولية من وضع نموذج جديد للإنفجار الكوني أطلق عليه اسم الكون المنتفخ (The inflationary universe) وقد تم نشر بحثه في عام 1981م في مجلة (Physical Review) بعنوان (الكون المنتفخ: حل محتمل لمشكلتي الأفق والتسطح). وفي عام 1982م قام باحث آخر وهو الفيزيائي الروسي أندريه لندي (Andrei Linde) من إجراء بعض التعديلات على نظرية الكون المنتفخ وقام بنشر نتائج بحثه في مجلة (Letters Physical) بعنوان (سيناريو جديد للكون المنتفخ: حل محتمل لمشاكل الأفق والتجانس والتناظر والقطب الأحادي الإبتدائي). وملخص نظرية الكون المنتفخ هو أنه في خلال اللحظات الأولى من الانفجار العظيم ونتيجة لحدوث ظاهرة فيزيائية غريبة يطلق عليها اسم التأثير النفقي (tunnel effect) بدأ الكون بالتمدد بمعدلات أكبر بكثير من المعدلات التي نصت عليها نظرية الانفجار العظيم. ولقد أظهرت النتائج أن الكون قد ازداد حجمه خلال أجزاء لا تذكر من الثانية (between 10−33 and 10−32 seconds) بمقدار يساوي الرقم 10 مرفوع للأس 50 وقد أدى هذا التضخم أو الإنتفاخ المذهل إلى ظهور كون يخلو من التناقضات التي ظهرت في النموذج التقليدي للإنفجار العظيم والمتعلقة بمشاكل الأفق والتجانس والتناظر والقطب الأحادي الإبتدائي. وفيما عدا هذه الفترة الزمنية البالغة القصر التي حدث فيها الإنتفاخ المفاجئ لمادة الكون فإن النظرية الجدبدة تتفق مع النظرية القديمة تماما في طبيعة الأحداث التي جرت في أرجاء ما يسمى بالكون المشاهد. إن الفرق الجوهري بين النموذج التقليدي أو ما يسمى بالكون الحار ونموذج الكون المنتفخ هو أن النموذج التقليدي افترض أن الكون بدأ حارا منذ لحظة انفجاره وأن الكرة النارية التي تمدد منها الكون كانت مملؤة بالجسيمات الأولية ذات الطاقة الحركية البالغة العلو وبناءا على هذه الافتراضات اضطر العلماء لوضع شروط ابتدائية كثيرة وصارمة جدا لكي يكون الكون على الصورة التي هو عليها الآن. أما في نموذج الكون المنتفخ فقد تبين للعلماء أن التمدد المفاجئ للكون في لحظاته الأولى قد أزال معظم الشروط الإبتدائية الصارمة ووجدوا كذلك أن الكون سيكون على الحال الذي هو عليه الآن بغض النظر عن الشروط الإبتدائية التي يتطلبها حل المعادلات الفيزيائية المتعلقة بعملية الانفجار. وعلى العكس من نموذج الكون الحار فإن نموذج الكون المنتفخ قد أظهر أن الكون كان في لحظاته الأولى باردا جدا وكانت جميع مادة وطاقة الكون كامنة في حالة أشبه ما تكون بالفراغ أو ما يسمى بالفراغ الزائف (false vacuum ) والتي لا وجود فيها للجسيمات الأولية وتغيب فيها كذلك جميع قوى الطبيعة الأربعة حيث أنها كانت موحدة في قوة واحدة لا زال العلماء يجهلون الطريقة التي تعمل بها هذه القوى على مادة الكون الأولى. وفي مثل هذه الحالة شبه الفارغة للمادة يمكن للكون أن يتمدد بدون أي مشكلة تذكر فلو أن قوة الجاذبية قد ظهرت قبل هذا التمدد المفاجئ لما أمكن للكون أن ينفجر بسبب جاذبيته البالغة العلو وحتى لو انفجر فإن مادته ستتطاير بشكل غير منتظم ولن يكون الكون بهذا التجانس والتماثل المذهل والذي فشل نموذج الكون الحار في إثباته. وطبقا لنموذج الكون المنتفخ فإن هذه المادة الصرفة الأشبه ما تكون بالفراغ قد تمددت بسرعات مذهلة تفوق بكثير سرعة الضوء وعندما وصل حجمها لحجم حدي معين وكذلك كثافتها بدأت طاقتها الكامنة بالتحلل بشكل منتظم في جميع أرجاء الكون آنذاك ليمتلئ الكون بالجسيمات الأولية والطاقة ويتحول الكون من كون بارد إلى كون حار ومن ثم بدأت أحداثه تتم وفقا لنموذج الكون الحار التقليدي.
لم يقتصر دور نظرية الكون المنتفخ على حل التناقضات الموجودة في نظرية الإنفجار العظيم بل جاءت بنتائج مدهشة تدعم الصورة التي رسمها القرآن الكريم عن هندسة الكون. فقد بينت النتائج التي تمخضت عنها هذه النظرية أن التمدد المفاجئ للكون في لحظاته الأولى قد أدى إلى ظهور مناطق مادية على شكل فقاعات يفصل بينها حواجز قوية وقد شكلت كل فقاعة من هذه الفقاعات كونا خاصا بها. وتؤكد النظرية بالنص على أن هذا الكون العظيم المترامي الأطراف الذي نشاهده لا يشكل إلا جزءا يسيرا من هذه الأكوان التي لم تستطع النظرية تحديد عددها. فلقد جاء في مقدمة مقالة الكون المنتفخ المنشورة في مجلة العلوم الأمريكية عام 1991م ما نصه بالإنكليزية (A new theory of cosmology suggests that the observable universe is embedded in a much larger region of space that had an extraordinary growth spurt a fraction of a second after the primordial big bang ) وترجمته: (نظرية جديدة في علم الكون تقترح أن الكون المشاهد مكنون أو مدفون في داخل منطقة كبيرة جدا من الفضاء الذي انبثق بمعدل نمو استثنائي في بداية الثانية الأولى بعد الإنفجار العظيم). ومن المشاكل التي تمكنت هذه النظرية الجديدة من حلها مشكلة الأقطاب المغناطيسية الأحادية وأنواع أخرى من الجسيمات الثقيلة. فقد أظهرت نتائج النموذج التقليدي لنظرية الانفجار العظيم أن الأقطاب المغناطيسية الأحادية وبقية الجسيمات الثقيلة قد تولدت بكميات كبيرة في الكون في مراحل نشوءه الأولى. ويقول العلماء أن وجود هذه الجسيمات الثقيلة وبهذه الكميات الكبيرة في بداية نشوء الكون قد يمنع تكونه على الصورة التي هو عليها الآن ولهذا فإنهم لم يعثروا على أي منها في هذا الكون المشاهد. وفي المقابل أظهرت نظرية الكون المنتفخ أن الأقطاب المغناطيسية الأحادية وبقية الجسيمات الثقيلة قد تولدت بالفعل في اللحظات الأولى للانفجار ولكنها لحسن الحظ قد تجمعت في الحواجز التي تفصل ما بين الأكوان العديدة التي ظهرت نتيجة التمدد المفاجئ لمادة الكون الأولى.
لقد انبرى عدد لا بأس من علماء الفيزياء وخاصة علماء فيزياء الجسيمات الأولية والفيزياء الفلكية لدراسة ظاهرة الأكوان المتعددة التي أوحت بها حلول المعادلات الرياضية للكون المنتفخ. ففي فيزياء الكم (quantum physics) التي تتعلق بدراسة الجسيمات الأولية في أدنى مستوياتها وجد العلماء أن هذه الجسيمات تتخذ أشكالا مختلفة بطريقة اعتباطية تبعا لمبدأ عدم اليقيين (uncertainty principle) وبالتالي فإن تحول الفراغ الزائف (false vacuum) الذي ظهر في الكون المنتفخ إلى جسيمات أولية يمكن أن يتم بأشكال متعددة منتجا أكوان متعددة يحوي كل منها أنواع مختلفة من الجسيمات والقوانين الفيزيائية. وكذلك وجدوا أن الكون الذي نعيش فيه يحتاج لكي يظهر بالشكل الذي هو عليه ضبط عشرين ثابتا كونيا بشكل فائق الدقة (fine tuning) وعليه فإن هناك احتمالية كبيرة لوجود أكوان مختلفة ظهرت أثناء انتفاخ الكون لكل منها ثوابتها الكونية الخاصة بها. وفي نظرية الأوتار (string theory) التي ظهرت في عام 1970م برز أيضا مفهوم الأكوان المتعددة حيث وجد العلماء أن الجسيمات الأولية التي تصفها فيزياء الكم مبنية من أوتار أحادية البعد وأن التردد الذي يهتز به الوتر هو الذي يحدد نوع الجسيم وكتلته وشحنته. إن عدد الترددات المحتملة لاهتزاز هذه الأوتار كبير جدا وعلى هذا فمن المحتمل وجود أكوان غير كوننا تهتز بها الأوتار بترددات تختلف عن تلك التي في كوننا. لقد شرح عالم الفيزياء الأمريكي برين جرين (Brian Greene) في كتابه (الحقيقة المخفية: الأكوان المتوازية والقوانين العميقة للكون) تسعة أنواع من الأكوان المتعددة وذلك تبعا للنظرية الفيزيائية التي أوحت بها. فعلى سبيل المثال فالأكوان المتعددة المنتفخة (inflationary multiverse) مستوحاة من الإنتفاخ الكوني الأبدي (eternal cosmological inflation) وهي مكونة من عدد لا متناهي من الأكوان الفقاعية (bubble universes).أما الأكوان المتعددة الهولوغرافية (holographic multiverse) فتعمد على نظرية الأوتار وتنص على أن هذه الأكوان قد تكون مرسومة على سطوح هولوغرافية بأبعاد أقل من الأبعاد التي يحس بها سكان هذه الأكوان.
أما المفاجأة الكبرى في أبحاث العلماء حول الأكوان المتعددة فهي ما جاء في آخر المقالات العلمية التي كتبها عالم الفيزياء الانجليزي المشهور (Stephen Hawking) ونشرت بعد موته في عام 2018م والتي اثبت فيها أن عدد الأكوان ليس لانهائي بل هو رقم محدد. فلقد قال في ملخص مقالته ما نصه (إن تخميننا يعزز الحدس بأن الأكوان الهولوجرافية توحي بتخفيض معتبر للأكوان المتعددة إلى مجموعة محدودة جدا من الأكوان المحتملة)
(Our conjecture strengthens the intuition that holographic cosmology implies a significant reduction of the multiverse to a much more limited set of possible universes.)
وقد قال في مقابلة مع جريدة الواشنطن بوست (Washington Post) حول هذا الموضوع ما نصه (نحن لا ننزل إلى مستوى كون واحد فريد بل تشير اكتشافاتنا إلى خفض معتبر في الأكوان المتعددة إلى مدى ضيق من الأكوان المحتملة) (“We are not down to a single, unique universe, but our findings imply a significant reduction of the multiverse to a much smaller range of possible universes.”). وإذا ما استمر العلماء في أبحاثهم بهذه الجدية فمن غير المستبعد أن يتمكنوا من تحديد عدد هذه الأكوان وأبعادها وهندستها ولا بد أنها ستتطابق مع ما أوحى الله عز وجل به في القرآن الكريم حول السموات السبع.
المراجع
https://futurism.com/physicist-convinced-countless-parallel-universes
https://www.forbes.com/sites/startswithabang/2019/05/23/could-parallel-universes-be-physically-real/
https://www.npr.org/2011/01/24/132932268/a-physicist-explains-why-parallel-universes-may-exist
https://www.scientificamerican.com/article/multiverse-the-case-for-parallel-universe/
https://www.space.com/40486-hawking-final-paper-physics.htm