إلى الأردن: القمحُ مرٌ في حقولِ الآخرين، والماءُ مالح

إلى #الأردن: #القمح مرٌ في حقولِ الآخرين، و #الماء #مالح

د. فايز أبو شمالة

لا أجافي الحقيقة لو قلت: إن التطبيع السري مع الصهاينة كان قائماً منذ زمن بعيد، منذ الاعتراف بقرارات الأمم المتحدة التي اعترفت بإسرائيل، ومنذ سنوات الهدنة الطويلة، والتطبيع قائم مع كثير من الأنظمة من خلال التنسيق والتعاون الأمني، وحفظ الأمن على الحدود، وإلقاء القبض على المقاومين، ومن خلال الحيلولة دون تشكيل أي تنظيم معادٍ للصهاينة، والتطبيع قائم من خلال الاتفاقيات الموقعة مع بعض الأنظمة، والتفاهمات القائمة مع البعض الآخر.

ما تشهده الساحة العربية هذه الأيام يعكس مرحلة جديدة من التعاون مع العدو الإسرائيلي، مرحلة تتجاوز مفهوم العلاقات الدبلوماسية المتعارف عليها بين الدول، وهذه العلاقة لا تقدم لعدو العرب قوة أمنية إضافية، بمقدار ما تقدم له حضوراً سياسياً في القرار العربي. فدولة الكيان الصهيوني في غنى عن سلاح الدول العربية، ولا حاجة لها للصناعات العربية غير المتقدمة، وعلى العكس من ذلك، فقد دللت المستجدات الميدانية على أن الأنظمة العربية بحاجة إلى سلاح الصهاينة، وإلى مالهم، وإلى أمنهم الذي تغلغل في مفاصل الحاكم العربي.

ولا معنى للتطبيع من وجهة نظر الإسرائيليين، ما لم تكن نتائجه مكوناً أساسياً لرغيف الخبز الذي تأكله الشعوب العربية، ومكملاً غذائياً لا تستغني عنه الأنظمة، بل تعمل دولة الكيان لكي تكون هي الناظم الوحيد للعلاقة بين البلاد العربية نفسها، وحبل المسبحة التي تلتصق فيه كل الحبات، التي سينفرط عقدها لو انقطع الحبل، إنها تهدف إلى احتواء المنطقة تحت جناح جهاز الموساد، القادر على تشكيل الأحلاف العسكرية لمواجهة خطرين ـ كما تجاهر في ذلك السياسية الإسرائيلية ـ الخطر الأول يتمثل بإيران، والخطر الثاني يتمثل بتركيا، ولا مناص للأنظمة العربية، من وجه النظر الإسرائيلية، إلا الاحتماء بالجيش الإسرائيلي، والنفوذ الإسرائيلي.

ولما كانت الدول تفتش عن مصالحها الذاتية كما قال العاجزون، فإن مرحلة التفتيش عن المصالح وسط هذه الدوامة، هي مرحلة التحلل من القيم الإنسانية، والتنصل من القضايا القومية التي تهم الأمة، وتكمن فيها مصالحها، وهذا ما أكده الواقع الاقتصادي لمصر، التي غرقت في الديون ـ كما يقول الاقتصاديون ـ حين فتشت عن مصالحها، وتجاهلت مصالح الأمة، وقد غرق الأردن في البحر المالح، وهو يفتش عن مصالحه في شربة ماء من كأس الكيان الصهيوني، فكانت اتفاقية الماء مقابل الكهرباء أكذوبة اقتصادية، لم يصدقها الشعب الأردني، فهو يعرف بالخبرة أن لدى أعدائه الصهاينة خزانات للطاقة الشمسية، تمتد من بئر السبع وحتى العقبة على البحر الأحمر، وكان بإمكان عدوهم أن يقيم مزارع الطاقة الشمسية هناك، ولكنهم تعمدوا أن تكون مخازن الطاقة في الأردن، كي تعزز من مفهوم السلام الاقتصادي، الذي تعتمده السياسة الإسرائيلية في إلقاء القبض على المنطقة كلها، فكان التوقيع على اتفاق الماء والكهرباء مدعوماً مالياً من دولة الإمارات، وتحت الرعاية الأمريكية.

إن مصلحة الشعب الأردني بالمياه المحلاة على البحر المتوسط لا تختلف كثيراً عن مصلحة عمال الضفة الغربية وغزة بالعمل في المصانع الإسرائيلية، والورش والمزارع داخل المستوطنات، حتى صار الحصول على تصريح عمل في دولة الكيان الصهيوني انجازاً سياسياً للقيادة الفلسطينية، وهي التي اعتبرت العمل داخل دولة الكيان الصهيوني جريمة وخيانة، وقبل خمسين عاماً ألقت منظمة التحرير القنابل اليدوية على الأوتوبيسات التي نقلت العمال الفلسطينيين من قطاع غزة إلى المستوطنات الصهيونية، فكيف انقلب الحال السياسي في هذه الأيام، فصار الحرام حلالاً، وصارت الخدمة داخل دولة الكيان الصهيوني إنجازاً سياسياً؟ تتفاخر به القيادة الفلسطينية، وترفع له شارات النصر!

لقد نجحت السياسة الإسرائيلية حتى اللحظة في تمرير مفهوم السلام الاقتصادي، وفي بسط نفوذ السلام الأمني، وما كان هذا الانتصار الإسرائيلي ليتحقق لولا الأرض الناعمة التي هيأتها قيادة منظمة التحرير، بعد أن مهدت الأرض بمحراث التنسيق والتعاون الأمني، الذي ضمن الازدهار للاقتصاد الإسرائيلي، فتمددت معه الأطماع إلى خارج حدود فلسطين، وفي هذا المضمار فإن الهدوء مع غزة لم يعد مطلباً إسرائيلياً، ولا مصلحة أمنية فقط، الهدوء مع غزة أضحى مطلباً أمريكياً، يسهم في تمرير المخططات الأبعد مدى من حدود قطاع غزة.

فهل ستواصل إسرائيل تمددها الآمن، وهل ستواصل الأنظمة العربية انكماشها الهزيل؟

حتى اللحظة، فإن ما يظهر على السطح يقول: نعم، ولكن ما يتأجج تحت السطح براكينٌ، ستجعل ما فوق السطح هشيماً تذروه الرياح.

ملحوظة: قبل عشرات السنين اختصر الشاعر محمود درويش واقعنا العربي بجملة شعرية واحدة، تقول:

القمحُ مرٌ في حقول الآخرين، والماءُ مالح

والغيمُ فولاذٌ، وهذا النجمُ جارح

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى