أوجه التّشابه والخِلاف بين الانتفاضتين اللبنانيّة والعِراقيّة؟

عبد الباري عطوان

هل يلحَق عبد المهدي بالحريري ويستقيل تَجاوبًا لمطالب المُحتجّين؟ وما دور سليماني في منع سُقوطه؟ وما أوجه التّشابه والخِلاف بين الانتفاضتين اللبنانيّة والعِراقيّة؟ وما هو السّؤال الذي نُوجّهه إلى السيّدين خامنئي ونصر الله؟ ولماذا يستغرِب البعض التدخّل الأمريكيّ لحرف الاحتِجاجات المَشروعة؟

إذا كانت المَوجة الأولى من الاحتِجاجات التي اجتاحت بعض الدول العربيّة في أوائل عام 2011 أطاحَت بمُعظم الانظمة الديكتاتوريّة، بينما أطاحَت الثانية التي اندَلعت شرارتها في السودان والجزائر قد أسقطت حُكومات عسكريّة من الجيش، فإنّ الموجة الثّالثة التي نشهد انفجارها في لبنان والعِراق تستهدف أنظمة “ديمقراطيّة”، اعتقد القائمون عليها أنّها مُحصّنة، سواءً بدعم قِوى خارجيّة أو بسبب ديمقراطيّتها الطائفيّة.

ما نُريد أن نقوله، وبإيجازٍ شديد، أنّ هذه المَوجات الثّلاث أثبتت أنّ الديمقراطيّة، سواءً كانت مُتكاملة أو ناقصة، ليسَت الحل السحريّ القادر على تقديم حُلول جذريّة لمُعاناة المُواطنين، خاصّةً في دول المُحاصصة الطائفيّة أو العِرقيّة، مِثل لبنان والعِراق أو مِصر والجزائر، وبدرجةٍ أقل السودان واليمن، في ظِل حالة الوعي الشّعبي المُتنامية.

***

إذا أخذنا الحالتين اللبنانيّة والعِراقيّة التي من المُفترض أن تسودها الديمقراطيّة، والانتخابات الأقرَب إلى الشفافيّة والنّزاهة سَببًا نجِد بينهما الكثير من القواسِم المُشتركة، وابرزها مُطالبة المُحتجّين الجِياع في مُعظمهم، باجتثاث الفساد ومُحاسبة الفاسدين، وإعادة ما نهبوه إلى خزينة الدولة، وإنهاء المُحاصصة الطائفيّة، وقطع دابِر التدخّلات الإقليميّة والدوليّة، وترسيخ الحُكم الرّشيد.

طبعًا هُناك فوارق في الحالين، ليس في حجم مَنسوب الفساد، وإنّما في طريقة التّعاطي مع المُحتجّين أيضًا، فالنّظام في لبنان كان أكثر عقلانيّةً وحضاريّةً، وتعامل مع المُتظاهرين بالحَد الأدنى من العُنف، بينما الوضع اختلف كُلِّيًّا في العِراق، ممّا أدّى إلى سُقوط 250 قتيلًا وآلاف الجرحى حتى الآن.

من المُفارقة أنّ مُعظم المُحتجّين في البلدين كانوا من المناطق الشيعيّة، وسواءً في جنوب لبنان، أو في جنوب العِراق، ولولا قرار السيّد حسن نصر الله، زعيم حزب الله، بسحب أنصاره من الشّوارع والميادين الرئيسيّة تَجنُّبًا لحُدوث أيّ احتكاكات أو صِدامات، لكانت الانتفاضة في لبنان “شيعيّة” في مُعظمها بالدّرجة الأولى لأنّ أهالي الجنوب هُم الأكثر مُعاناةً من فساد الدولة اللبنانيّة، مع بعض الاستِثناءات المحدودة.

السيّد سعد الحريري، رئيس الوزراء اللبناني، جرى إجباره على الاستقالة، سواءً لعدم قُدرته على التّجاوب مع مطالب المُحتجّين، ووصوله إلى طريقٍ مسدودٍ أثناء مُحاولاته إيجاد مخارج من الأزمة، أو بتعليماتٍ خارجيّة، وأمريكيّة تَحديدًا، مثلما يَهمِس كثيرون في بيروت، لإبقاء التوتّر والاحتجاجات مُستمرّةً، وخلق فراغ حُكومي يقود إلى فوضى عارمة، وربّما الاقتتال الداخلي، ولكن نظيره العِراقي عادل عبد المهدي الذي يُوصَف بأنّه أضعف رئيس وزراء عِراقي مُنذ الغزو الأمريكي، ما زال صامِدًا في موقعه، والفضل في ذلك يعود إلى اللّواء قاسم سليماني، رئيس فليق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الذي تقول تقارير إنّه قام بزيارةٍ سريّةٍ إلى بغداد، واستطاع بنُفوذه إلغاء التّوافق بين رئيسيّ أكبر كُتلتين في العِراق، أيّ السيّد مقتدى الصدر، وهادي العامري، رئيس الحشد الشعبي، على الإطاحة به، وتقديمه كبش فداء للمُتظاهرين، ولكن من المُستبعد أن يطول بقاؤه في جميع الأحوال.

كتبنا، وغيرنا، الكثير عن الانتفاضة اللبنانيّة، ربّما لأنّ الأوضاع في لبنان تُحيط بها الشفافيّة، والتغطية الإعلاميّة الحُرّة، وعُنصر الاستقطاب الإقليمي والدولي أقل حدّة، ولكن ما يجري في العِراق حاليًّا هو الأكثر خطورة، لأنّه يعكِس صِراعًا شَرِسًا بين قُطبين خارجين، إيران والولايات المتحدة، لهُما قوّات وأنصار داخله، هذا أوّلًا، ولأنّ العِراق من المُفترض أنّه “تحرّر” من قِوى غربيّة أرادت أن تجعل منه نَموذجًا يُحتذى به في الديمقراطيّة والنّزاهة، واحترام حُقوق الإنسان، والازدهار الاقتصادي ثانيًا، ولأنّه دولة نفطيّة غنيّة تُدخِل ميزانيّتها 30 مِليار دولار شَهريًّا، إن لم يَكُن أكثر ثالثًا.

المُحتجّون مزّقوا صورة السيّد علي خامنئي المُرشد الأعلى للثورة الإيرانيّة في كربلاء، وأحرقوا القنصليّة الإيرانيّة، وسحَلوا القائد المحلّي لعصائب أهل الحق، المُنظّمة المُتّهمة بإطلاق النّار على المُتظاهرين، ومنَعوا السيّد مقتدى الصدر من النّزول من سيّارته عندما حاول قيادة المُظاهرات في النّجف، مسقط رأسه، الأمر الذي دفع السيّد خامنئي إلى اتّهام أمريكا وإسرائيل والسعوديّة بالوقوف خلف هذه المُظاهرات وصَب الزّيت على نارِها لازديادها اشتِعالًا.

السيّد الخامنئي يلتقي مع السيّد نصر الله على أرضيّة هذا الاتّهام لأمريكا وإسرائيل، واستهداف محور المُقاومة بالتّالي، ومُحاولة تقويض قوّته من الدّاخل، وتحقيق ما فشِل هؤلاء في تحقيقه من خِلال القوّة العسكريّة، وهذا الاتّهام “غير مُستبعد”، ولكن المُحتجّين لم يخرجوا إلى الشوارع والميادين في بغداد وكربلاء والنّجف والبصرة والعمارة بأوامر أمريكيّة، وإنّما بسبب الجُوع والحِرمان، والفساد، وغِياب الخدمات العامّة الأساسيّة، من ماء وكهرباء وطبابة، فهل يُعقَل أن يكون خُمس مُواطنين العِراق الغني بموارده النفطيّة وغير النفطيّة تحت خط الفقر؟ وهل يُعقَل أن يكون ترتيب العِراق الرابع على قائمة الدول الأكثر فسادًا في العالم؟ وهُناك تقارير مُوثّقة تُؤكِّد سرقة أكثر من تريليون دولار من أمواله.

***

إذا كانت إيران هي صاحبة النّفوذ الأكبر في العِراق مثلما يقول خُصومها في أمريكا وبعض دول الخليج، فلماذا لم تستخدم هذا النّفوذ في اقتلاع الفساد والفاسِدين من جُذورهم مُبكرًا، وتكون هذه المَهمّة على رأس اهتماماتها، والشّيء نفسه يُقال أيضًا إلى “حزب الله” في لبنان؟

نسأل: لماذا تَقِف الولايات المتحدة أكبر دولة داعمة للإرهاب والفساد في العالم خلف هذه الاحتِجاجات الشرعيّة، مِثلَما يقول خُصومها، وتَقِف في الخندق المُقابل، أيّ المُضاد لها، قِوى تُشكّل العمود الفِقري لمحور المُقاومة الذي يتصدّى لها، ومشاريعها التفتيتيّة في الهيمنة وتعزيز الاحتلال الأمريكي، وزعزعة أمن المِنطقة واستقرارها، هذا مع تسليمنا بأنّ بعض القِوى المَحسوبة عليها، أيّ أمريكا، تُريد حَرف هذه الاحتجاجات المَشروعة عن أهدافها؟ ولماذا يستغرب البعض ذلك من أمريكا ودولة الاحتلال الإسرائيلي ودول خليجيّة؟

خِتامًا نقول إنّ مُقاومة الاحتلال الإسرائيلي ومشاريع الهيمنة والتّفتيت الأمريكيّة للمِنطقة، لا يُمكن أن تتحقّق إلا بالتّجاوب مع جميع مطالب الحِراك، واقتِلاع كُل الفاسدين في لبنان والعِراق وفِلسطين، وكُل الدّول العربيّة، والقضاء على الطائفيّة، وتكريس الديمقراطيّة الحقّة والعدالة الاجتماعيّة، فالمُجتمعات الخالية من الفساد هي أكبر وأقوى داعِم للمُقاومة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى