أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع
الدكتور منصور أبوشريعة العبادي \جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية
لقد سبق القرآن الكريم علماء البشر بما يزيد عن ألف عام في التأكيد على أن الذكر والأنثى في الكائنات الحية لم يتم خلقهما من التراب بشكل مستقل بل تم خلقهما من أصل مشترك أو نفس واحدة لا هو بالذكر ولا هو بالأنثى أو ما يسمى بالكائن ثنائي الجنس أو المخنث (bisexual or Hermaphrodit). وتفرد كذلك بالإشارة إلى أن هذا الأصل المشترك كان يحمل في جسمه الأعضاء التناسلية الذكرية (المستودع) وكذلك الأعضاء التناسلية الأنثوية (المستقر) وذلك في قوله تعالى “وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)” الأنعام. وأشار القرآن كذلك إلى أن الله عز وجل خلق الزوجين الذكر والأنثى وهي كائنات أحادية الجنس (unisexual) كوسيلة للتكاثر الجنسي ليحل محل التكاثر اللاجنسي والتكاثر العذري والتكاثر الخنثوي في معظم الكائنات وذلك في قوله تعالى “فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)” الشورى فمعنى يذرؤكم في الآية هو يكثركم. إن الذي أبدع هذه الطريقة العجيبة في التكاثر سبحانه وتعالى يعلم تمام العلم ما فيها من معجزات كبرى ويعلم أنها ستصدع رؤوس علماء البشر وهم يحاولون فك ألغازها كما اعترف بذلك أحدهم فقال (لقد حكحك علماء الأحياء رؤوسهم حول كيف ولماذا تم تطوير الجنسين الذكر والأنثى بشكل منفصل ) (biologists have scratched their heads over how and why the separate male and female sexes evolved). ونظرا لما في هذه الظاهرة العجيبة من معجزات أقسم الله عز وجل بها في آيات عديدة كما في قوله تعالى “وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45)” النجم وقوله تعالى “وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)” الليل وفي قوله تعالى “فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)” القيامة.
ويعتبر التحول من التكاثر اللاجنسي (asexual) والخنثوي (hermaphroditism) والعذري (Parthenogenesis) إلى التكاثر الجنسي (sexual) في الكائنات الحية من أعقد ألغاز تطور الحياة على الأرض حيث لا يوجد مبررات مقنعة لترك طرق سهلة وسريعة ومضمونة للتكاثر إلى طريقة بالغة التعقيد وبطيئة وغير مضمونة. ولا زال علماء التطور حتى الان في حيرة من أمرهم من هذه الظاهرة التي تستلزم لإنتاج كائن حي جديد وجود ثلاث مستويات من التزاوج تبدأ بالتزاوج بين الذكر والأنثى ومن ثم ما بين الحيوان المنوي والبويضة وأخيرا فيما بين الكروموسومين الذكري والأنثوي كما سنشرح ذلك لاحقا. ولقد قال عالم الأحياء غراهام بل في كتابه الشهير (تحفة الطبيعة: تطور الجين والجنس) (The Masterpiece of Nature: The Evolution of Genetics and Sexuality) (إن ظاهرة الجنس هي ملكة المشاكل في الأحياء التطورية وربما لا يوجد أي ظاهرة طبيعية أخرى أثارت هذا الاهتمام الكبير وبالطبع لا غيرها سببت مثل هذا القدر الكبير من الإرباك) (Sex is the queen of problems in evolutionary biology. Perhaps no other natural phenomenon has aroused so much interest; certainly none has sowed as much confusion).
ولقد اعترفوا كذلك بأن هذا التحول كان أكبر مخاطرة في تاريخ تطور الحياة فالحفاظ على عمل هذه الطريقة لفترات زمنية طويلة يتطلب كلفة عالية مقابل معدل تكاثر منخفض بالمقارنة مع طرق التكاثر الأخرى إلى جانب التعقيد البالغ في طريقة عملها والمشاكل الكثيرة التي ستواجه الذكر والأنثى عند إنتاج كائن جديد. بل إن علماء تطور الحياة أنفسهم قد اعترفوا بأن آليات الاختيار الطبيعي في نظرية التطور لا يمكنها بأي شكل من الأشكال تفسير هذا التحول فقالوا (إن الحفاظ على التكاثر الجنسي من خلال الاختيار الطبيعي في عالم شديد المنافسة كان أحد أكبر ألغاز علم الأحياء حيث أن كل من الطريقتين الأخريين المعروفتين وهما التكاثر اللاجنسي والخنثوي تمتلكان ميزات ظاهرة عليها) (The maintenance of sexual reproduction by natural selection in a highly competitive world has long been one of the major mysteries of biology, since both other known mechanisms of reproduction – asexual reproduction and hermaphroditism – possess apparent advantages over it). وسيتبين للقاريء في الشرح التالي أن نسبة نجاح هذه الطريقة في إنتاج كائن جديد نسبة بالغة الضآلة بل قد تكون مستحيلة لو لم يكن الذي أبدعها وصممها هو من لا حدود لعلمه وقدرته سبحانه وتعالى القائل “الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)” الفرقان.
وفي المقابل يعترف علماء الأحياء بأن طريقة التكاثر الجنسي تعمل بكفاءة عالية في 99% من الكائنات متعددة الخلايا منذ ما يزيد عن بليون سنة وأنها أحدثت تنوع لا حدود في أشكال ملايين الأنواع من الكائنات بل وفي أشكال مئات الأصناف في نفس النوع. ومن الميزات المهمة للتكاثر الجنسي هو قدرة الخلايا على تصحيح الأخطاء التي قد تحصل في الكروموسومات عند انقسام الخلايا وعند تعرضها للمؤثرات الخارجية بسبب وجود نسختين من الكروموسومات فيها أحدهما من الذكر والأخرى من الأنثى. ولا شك أن إحداث التنوع في أشكال الكائنات الحية هو أحد أهداف التكاثر الجنسي ولكن في ظني أن الهدف الأهم هو أنه هدية ونعمة من الله عز وجل للبشر فالتزاوج بين ذكورهم وإناثهم هو من أكبر متع الحياة الدنيا والذي سيكون أيضا من أعظم المتع في الجنة التي وعدها الله عز وجل عباده المؤمنين في الحياة الأخره مصداقا لقوله تعالى “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)” الروم. ومما يبعث على العجب أن بعض علماء الأحياء رغم اعترافهم بالصعوبة البالغة لإمكانية نجاح عمل هذه الطريقة بالاعتماد على المقاييس البشرية واعترافهم في نفس الوقت بنجاحها الباهر إلا أنهم لا يريدون الاعتراف بأن الذي أبدع هذه الطريقة وصممها لا بد وأن يكون خالق لا حدود لعلمه وقدرته القائل سبحانه وتعالى “هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)” لقمان.
لقد كان القرآن الكريم في غاية الدقة عندما تكلم عن الأصل المشترك الذي خلق منه البشر فلم يذكر أبدا أن أمنا حواء قد خلقت من أبينا آدم عليهما السلام كما جاء في التوراة بل أشار إلى أنهم قد خلقوا من نفس واحدة أي أصل مشترك واحد كما في قوله تعالى “خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا” الزمر 6. ومن الواضح أن خلق أمنا حواء من أبينا آدم عليهما السلام بشكل مباشر يتعارض مع قوله تعالى “وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)” الأنعام. فالنفس الواحدة المذكورة في هذه الآية تؤكد على أنها كانت تحمل في جسمها الأعضاء التناسلية الذكرية (المستودع) وكذلك الأعضاء التناسلية الأنثوية (المستقر) ومن المؤكد أن أبينا آدم عليه السلام لم يكن كذلك. ولقد قال علماء التفسير أن المستودع هو ما في أصلاب الذكور والمستقر هو ما في أرحام الإناث من خلايا التكاثر الجنسي وذلك عند تفسير قوله تعالى ” وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)” هود. ولكن المفسرين اختلفوا على معنى المستقر والمستودع في الآية الواردة في سورة الأنعام فلم يكن ليخطر على بالهم أبدا وجود كائنات مخنثة تحمل في أجسامها أعضاء تناسلية ذكرية وأنثوية في نفس الوقت. ولو افترضنا جدلا أن أمنا حواء قد خلقت من ضلع أبينا أدم بمعجزة ربانية فكيف لنا أن نفسر الحال مع ملايين الأنواع من الكائنات الحية التي لا بد وأن ذكورها وإناثها قد خلقت من أصل واحد كما هو الحال مع البشر.
لقد اختار الله سبحانه وتعالى طريقة التكاثر اللاجنسي كوسيلة لتكاثر الكائنات البدائية التي خلقها سبحانه مباشرة من التراب ومن ثم في الكائنات الحية متعددة الخلايا التي تطورت منها. وفي التكاثر اللاجنسي يقوم الكائن الحي بمفردة بإنتاج كائن حي جديد على شكل نسخة طبق الأصل عنه دون الحاجة لتدخل كائن آخر. وتتميز هذه الطريقة بسهولتها وارتفاع معدل التكاثر فيها إلا أن عيبها الرئيسي هو أن الكائنات الناتجة هي نسخ طبق الأصل عن الكائن الأصل فهي بذلك لا تؤدي إلى التنوع المنشود في أشكال الكائنات الحية. إن هذه الطريقة اللاجنسية في التكاثر تستخدم في جميع الكائنات الحية الدقيقة وفي كثير من أنواع النباتات وفي بعض أنواع الحيوانات وذلك باستخدم آليات مختلفة. ومن أهم هذه الأليات الانقسام (fission) والتبرعم (Budding) والتجزوء أو التشطر (fragmentation or splitting) والتبوغ (sporulation) والتجديد (regeneration) والإكثار الخضري (Vegetative Propagation) والتوالد العذري (Parthenogenesis)). وتستخدم آلية الانقسام للتكاثر في جميع الكائنات وحيدة الخلية وتستخدم أيضا في تصنيع جميع الكائنات الحية متعددة الخلايا ابتداءا من خلية تكاثر واحدة وكذلك تعويض الخلايا الميتة. ويوجد نوعان من الانقسام الخلوي وهما الانقسام المتساوي أو الميتوزي (Mitosis) والذي يستخدم في التكاثر اللاجنسي وفي تكاثر خلايا جسم الكائن (Somatic cells) والتي غالبا ما تحتوي على أزواج مرتبطة من الكروموسومات ولذا تسمى الخلايا الضعفية (Diploid cells). وأما النوع الثاني فهو الانقسام الاختزالي أو الميوزي (Meiosis) والذي يحدث في خلايا التكاثر الجنسي وهي الحيوانات المنوية والبويضات والتي تحتوي على نصف عدد الكروموسومات أو ما يسمى بالخلايا النصفية (Haploid cells). ففي الانقسام غير المباشر يتم انقسام الخلية القديمة أو الأم (mother cell) إلى خليتين جديدتين شبيهتين تماما بها يحتوي كل منهما على نفس العدد من الكروموسومات وكذلك بقية المكونات.
أما آلية التبرعم فتتم من خلال قيام خلية عادية في جسم الكائن متعدد الخلايا بالانقسام انقساما اعتياديا متكررا منتجة برعما بارزا خارج جسم الكائن وملتصقا به ومن ثم ينفصل البرعم عن الجسم مع تواصل خلاياه بالانقسام لتنتج كائن جديد بنفس مواصفات الكائن الأصل. وتستخدم هذه الطريقة في بعض أنواع المملكة الحيوانية كالخمائر والمرجان والاسفنج والهايدرا وأسماك الجلي. وأما آلية التجزؤ أو التشطر (fragmentation or splitting) فتتم من خلال انفصال أي جزء أو أكثر من جسم الكائن ليبدأ كل جزء بالنمو لينتج كائن جديد بنفس مواصفات الكائن المنفصلة عنه وهي مستخدمة في بعض الحيوانات كنجوم البحر والديدان والاسفنج وفي بعض النباتات كأحد طرق التكاثر الخضري. وفي آلية التبوغ (sporulation) يقوم الكائن بإنتاج ما يشبه البذور لكنها وحيدة الخلية ولا تحتاج إلى تلقيح ويوضع عدد كبير منها في أكياس خارجة من جسم الكائن. وعندما ينفتح الكيس تتطاير الأبواغ (spores) ليتحول كل منها إلى كائن جديد بنفس مواصفات الكائن الأصل وهي مستخدمة في بعض أنواع الفطريات والطحالب والنباتات. أما آلية التجديد (regeneration) فتستخدمها بعض الكائنات لإعادة بناء بعض أعضائها إذا ما قطعت كما يحدث في السحالي والديدان وغيرها. وأما الإكثار الخضري (Vegetative Propagation) فيتم بقطع بعض أجزاء النبات كجذورها وغصونها وأوراقها وزراعتها لتنتج نباتات بنفس مواصفات النبتة الأصلية وذلك إما بشكل طبيعي (natural) أو بشكل صناعي (artificial) كالتعقيل (cutting) والترقيد (layering) والتطعيم (grafting).
ويعتبر التوالد العذري (Parthenogenesis)) أغرب أنواع التكاثر اللاجنسي حيث تتحول البويضات التي تنتجها الإناث إلى أجنة دون الحاجة إلى تلقيحها من الذكور وهذا الآلية مستخدمة في عدد لا بأس به من الحيوانات وخاصة الديدان والحشرات والزواحف والأسماك وغيرها. وغالبا ما يوجد التوالد العذري في كائنات يمكنها التكاثر جنسيا أو لاجنسيا حيث يمكنها اختيار نوع التكاثر وذلك حسب الحاجة وحسب جنس الكائن المراد توليده ذكرا أو أنثا. فالبويضات يتم إنتاجها في مبايض هذه الكائنات إما من خلال الانقسام المتساوي أو الميتوزي (Mitosis) أو من خلال الانقسام الاختزالي أو الميوزي (Meiosis). وتتحول البويضات الناتجة عن الانقسام المتساوي إلى كائنات أنثوية تتكون أجسامها من خلايا ضعفية (Diploid cells) كما في جسم الأم وهي نسخة طبق الأصل (full clones) عنها . أما البويضات الناتجة عن الانقسام الاختزالي فتتحول في الغالب إلى كائنات ذكرية تتكون أجسامها من خلايا نصفية (Haploid cells) وتختلف مواصفات أجسامها عن تلك التي للأم وتسمى نسخ نصفية (half clones). ويستخدم هذا النوع من التكاثر بكثرة في النحل والنمل فملكة النحل تقوم بإنتاج الذكور من خلال التوالد العذري من بيوض غير ملقحة من قبل الذكور. وعندما تقوم هذه الذكور بالتزاوج مع الملكة فإنها تنتج بيوض ملقحة يتولد منها إناث النحل والتي تبقى عقيمة تعمل كشغالات إلا إذا غذيت بغذاء خاص فإنها تصبح ملكة قادرة على الإنجاب. إن هذا التوالد العذري يشرح لنا الكيفية التي خلق الله عز وجل الذكر والأنثى من أصل واحد وهو الأنثى في جميع الكائنات التي تتوالد بالتكاثر الجنسي كما جاء في قوله تعالى “خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا” الزمر 6.
لقد ظهر أول أشكال التكاثر الجنسي في كائنات حية لا هي بالذكر ولا هي بالأنثى أو ما يسمى بالكائنات ثنائية الجنس أو المخنثة (bisexual or Hermaphrodites) حيث يحمل كل فرد منها في جسمه الأعضاء التناسلية الذكرية والأنثوية. ويتم التكاثر في هذا النوع من الكائنات المخنثة إما من خلال التلقيح الذاتي (self-fertilization) حيث تنتقل الحيوانات المنوية من العضو التناسلي الذكري إلى العضو التناسلي الأنثوي في نفس الكائن وإما من خلال التلقيح التبادلي (cross-fertilization) بين كائنين يقوم أحدهما بدور الذكر والآخر بدور الأنثي وبالعكس كما يحدث حتى الآن في كثير من أنواع الديدان والحشرات والكائنات البحرية. ويوجد أشكال مختلفة من الخنوثة منها الكائنات المخنثة المتزامنة (Simultaneous hermaphrodites) والتي يقوم الفرد فيها بدور الذكر والأنثى في نفس الوقت طول فترة حياته. أما الكائنات المخنثة المتعاقبة (Sequential hermaphrodites) فيولد الكائن إما ذكرا ويقوم بدور الذكر لفترة من الزمن ثم يتحول إلى أنثى (Protandry) كما في الأسماك المهرجة أو يولد كأنثى ثم يتحول ذكر (Protogyny) كما في أنواع أخرى من الأسماك. ومن أشكالها كذلك الكائنات متغيرة الجنس (Bidirectional Sex Changers) حيث يقوم الكائن المخنث بتغيير جنسه من ذكر لأنثى أو العكس وذلك حسب الحاجة كما في بعض أنواع الأسماك. إن الكائنات المخنثة موجودة في معظم أنواع النباتات حيث يوجد في أزهارها الأعضاء التناسلية الذكرية والأنثوية ويتم التلقيح إما ذاتيا في داخل نفس الزهرة أو متبادلا بين زهرتين. أما في الحيوانات فيوجد ما يزيد عن خمسين ألف نوع من الحيوانات المخنثة من أصل ما يزيد عن مليون نوع من الحيوانات المعروفة. وقد تظهر الكائنات المخنثة في الكائنات وحيدة الجنس (unisexual) بما فيها الإنسان نتيجة لخلل جيني أو هرموني ويحمل الكائن المخنث (intersex) في جسمه أعضاء تناسلية ذكرية وأنثوية مع تغير في شكله الخارجي.
إن آخر ما أبدع الله عز وجل من طرق التكاثر هو التكاثر الجنسي والذي يعتمد على ما يسمى بالكائنات أحادية الجنس (unisexual organisms) التي خلقها الله عز وجل من الكائنات ثنائية الجنس (bisexual organisms) أو المخنثة (Hermaphrodites). وفي الكائنات أحادية الجنس يتم التكاثر بالتعاون بين كائنين اثنين أحدهما الذكر والذي يمتلك أعضاء تناسلية ذكرية فقط وينتج مشائج ذكرية (male gametes) والآخر هو الأنثى والتي تمتلك أعضاء تناسلية أنثوية وتنتج مشائج أنثوية (female gametes). إن هذا التنوع الهائل في أشكال عشرات الملايين من أنواع الكائنات الحية ما كان ليتحقق لولا إبداع الخالق سبحانه وتعالى لهذه الطريقة من التكاثر الجنسي. وتتطلب هذه الطريقة لتصنيع كائن جديد تعاون كائنين اثنين بحيث ينتج كل منهما خلية تحمل برنامج تصنيع كامل بمواصفات الكائن الذي أنتجها ولكن لا يمكن لأي منهما تنفيذ برنامج التصنيع الذي في داخله بمفرده. ولكن بمجرد دمج برنامجي التصنيع الموجودين في الخليتين في نواة إحداهما فإن الخلية الملقحة أو النطفة تبدأ بتنفيذ برنامج تصنيع الكائن إذا ما توفرت لها الظروف المناسبة. ولكي تحقق طريقة التكاثر هذه الهدف الذي صممت من أجله وهو زيادة التنوع في أشكال الكائنات الحية فعلى برنامج التصنيع الموحد أن يأخذ تعليمات تصنيع الأجزاء المختلفة للكائن من البرنامجين بحيث تكون بعض مواصفات الكائن الجديد مأخوذة من الكائن الذكر والبعض الآخر مأخوذ من الكائن الأنثى. وهذا التنوع أيضا لن يتحقق إلا بوجود اختلاف في برنامجي التصنيع المأخوذين من الذكر والأنثى مما يعني أن مواصفات جسم أول ذكر وجسم أول أنثى انحدر منهما كل نوع من أنواع الكائنات الحية لا بد وأن تكون مختلفة وإلا لما استدعى الأمر اختراع مثل هذه الطريقة البالغة التعقيد.
إن أول مشكلة تطلب حلها لإنجاح طريقة التكاثر الجنسي هو تصميم آلية لتصنيع كائن جديد من كائنين اثنين بحيث يأخذ مواصفات جسمه من كل من مواصفات جسمي الكائنين المنتجين له وهما الذكر والأنثى. ففي التكاثر اللاجنسي والخنثوي يمكن لأي خلية من خلايا جسم الكائن أن تقوم بإنتاج كائن جديد بمجرد إعطاء إشارة بدء عملية التصنيع حيث أن كل خلية في الجسم تحتوي على كامل برنامج التصنيع الموزع على عدد من الكروموسومات الأحادية. أما في التكاثر الجنسي فإنه يلزم دمج خليتي تكاثر أحدهما من الذكر والأخرى من الأنثى لإنتاج الخلية أو النطفة التي يبدأ منها تصنيع الكائن الجديد والتي يجب أن تحتوي على جميع كرومسومات كل من الذكر والأنثى. إن هذه المشكلة قد تم حلها من قبل من لا حدود لعلمه وقدرته سبحانه وذلك باستخدام فكرة عجيبة لا يمكن أن تصدر إلا عن عليم خبير ولا يمكن للصدفة أن تهتدي إليها بطريقة التجربة والخطأ مهما أعطيت من زمن. وتتلخص هذه الفكرة العبقرية بأن يقوم كل من الكائن الذكر والكائن الأنثى بإنتاج خليتين تكاثريتين يحتوي كل منها على نصف عدد الكروموسومات الموجودة في خلايا الجسم العادية وعند اتحادهما لإنتاج النطفة فإن عدد الكروموسومات فيها سيكون بعدد الكروموسومات الموجودة في الخلايا العادية أيّ أن عدد الكروموسومات سيبقى ثابتا مهما تكررت عملية التكاثر. وقد يتبادر لذهن البعض أن خلايا التكاثر هذه تحتوي على نصف برنامج تصنيع الكائن الذي أنتجها وهذا ليس بصحيح حيث أن خلايا الجسم العادية تحتوي على أزواج من الكروموسومات كل زوج يتكون من كروموسوم ذكري وآخر أنثوي لهما نفس الطول ونفس الجينات مع اختلاف بسيط في محتوى بعض الجينات كما سنشرح ذلك بعد قليل. إن الخلية الملقحة أو النطفة وكذلك الخلايا العادية للكائن الحي تحتوي على برنامجين للتصنيع أحدهما مأخوذ من الخلية الذكرية والآخر من الخلية الأنثوية ولكن عندما تبدأ عملية تصنيع الكائن ابتداء من الخلية الملقحة فإن تعليمات التصنيع تؤخذ من كلا البرنامجين بطريقة مدروسة بحيث تكون مواصفات الكائن الناتج خليط من مواصفات الذكر والأنثى.
يتم إنتاج خلايا التكاثر في التكاثر الجنسي باستخدام الانقسام الاختزالي أو الميوزي (Meiosis) والذي يختلف عن الانقسام المتساوي أو الميتوزي (Mitosis) المستخدم في التكاثر اللاجنسي والخنثوي. ففي الانقسام الميتوزي تنقسم خلية التكاثر إلى خليتين متطابفتين تماما ويحتويان على نفس الكروموسومات ولذا فإن الكائنات الناتجة هي نسخ طبق الأصل عن بعضها البعض وعن الأصل الذي أنتجها. يعتبر إنقسام الخلية إلى خليتين معجزة من معجزات الخالق لا تقل في إعجازها عن إعجاز خلق أول خلية حية من التراب ولكن انقسام الخلية اختزاليا لأغراض إنتاج الخلايا التكاثرية فيها من المعجزات التي تثبت للبشر استحالة حدوثها بالصدفة. يختلف الإنقسام الاختزالي عن الانقسام المتساوي في عدة وجوه أولها أن الخلية العادية في الانقسام الاخنزالي الذي يحدث في الخصي والمبايض تنقسم إلى أربعة خلايا تكاثرية وليس إلى خليتين كما في الانقسام المتساوي ويتم ذلك على مرحلتين من الانقسام. أما الوجه الآخر والمعجز فهو أن كل كروموسوم من الكروموسومات الآحادية المودعة في خلايا التكاثر الأربع يتم اختيار جيناته كخليط من جينات الذكر والأنثى وبحيث لا تتشابه كروموسومات الخلايا الأربع أي أن الكائن الذي سيخلق من هذه الخلايا سيكون فريدا في مواصفاته. إن ظاهرة التبادل الكرموسومي (Chromosomal crossover) التي تتجلى أكثر ما تتجلى في البشر تعتبر من أكبر معجزات الخالق سبحانه وتعالى فمن المستحيل أن يتشابه فردان من أفراد البشر في أشكال أجسامهم وبصمات أصابعهم وقزحياتهم وصدق الله العظيم القائل “هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)” آل عمران.
أما المشكلة الثانية في التكاثر الجنسي فهي حاجتها إلى ثلاث مستويات من التزاوج أولها وأبسطها نسبيا التزاوج بين الذكر والأنثى وثانيها التزاوج بين المشيجة الذكرية (الحيوان المنوي) والمشيجة الأنثوية (البويضة) وثالثهما التزاوج بين الكروموسومات الذكرية والأنثوية. إن أول أنواع التزاوج يتطلب تصميم أجهزة تناسلية في كل من الذكر والأنثى قادرة على إنتاج خلايا التكاثر وبحيث يتوافق تركيب كل منهما مع الآخر ليقوما بالوظيفة التي صمما من أجلها على أكمل وجه. وللقارئ أن يحكم بنفسه إن كان باستطاعة الصدفة أن تكتب برامج لتصنيع ملايين الأشكال من أجهزة التناسل الذكرية والأنثوية في ملايين الأنواع من الكائنات بحيث تكون أجهزة التناسل الذكرية متوافقة تمام التوافق مع أجهزة التناسل الأنثوية في كل منها. إن وجود أجهزة تناسل متوافقة في كل من الذكر والأنثى قادرة على إنتاج خلايا التكاثر لن تجدي نفعا في غياب آلية تجبر الذكر والأنثى للتزاوج لجمع خليتي التكاثر في حيز واحد. إن البشر لا زالوا يقفون عاجزين حتى اليوم عن زرع الشهوة في بعض أفراد بني جنسهم إذا ما فقدوها على الرغم من أنهم تمكنوا من معرفة الهرمونات المسؤولة عن إثارة الشهوة الجنسية لديهم. إن الدارس لطرق تكاثر الكائنات الحية يجد أن الذي قام باختراع طريقة التكاثر هذه سبحانه وتعالى قد كتب برامج معقدة أودعها جينات هذه الحيوانات بحيث تضمن تزاوجها في أوقات محددة لضمان تكاثرها بالأعداد المطلوبة مما يحول دون انقراضها من قبل بعضها البعض.
أما المستوى الثاني من مستويات التزاوج فهو الذي يتم بين خليتي التكاثر الذكرية والأنثوية إذا ما تم جمعهما في حيز واحد وذلك بعد أن تتم عملية التزاوج بين الذكر والأنثى. وتتطلب عملية التزاوج هذه وجود آلية تدفع خلية التكاثر الذكرية للبحث عن خلية التكاثر الأنثوية ومن ثم تدفعها لاختراق جدارها وذلك لكي تقوم بتفريغ النصف الأول من برنامج التصنيع الذي تحمله في نواة الخلية الأنثوية حيث يوجد النصف الثاني من البرنامج. وبما أن هذا الخلايا التكاثرية لا تسمع ولا تبصر وليس لها أيدي وأرجل فقد زودها من صممها سبحانه وتعالى بآليات عجيبة تقوم مقام آلية الشهوة الموجودة في الذكر والأنثى تمكنها من الالتقاء ببعضها البعض. ففي النباتات يتم نقل حبوب اللقاح الذكرية من قبل الحشرات والرياح والمياه من الأزهار لتحطها في مبايض أزهار أخرى لتتم عملية التزاوج بينهما. وفي الحيوانات تطلق الخلية الأنثوية مواد كيميائية في السائل المحيط بها في المبيض تعمل على اجتذاب الخلية الذكرية نحوها والتي تم تزويدها بذيل يدفعها للحركة نحو الخلية الأنثوية فتقوم بمجرد ملامستها بفرز مادة كيميائية تذيب غشاءها لتتمكن من الدخول فيها. ومن عجائب عملية التزاوج هذه أنه على الرغم من أن الخلية الأنثوية الوحيدة قد يصلها أعداد كبيرة من الخلايا الذكرية إلا أنها لا تسمح إلا لواحد منها فقط بالدخول إلى نواتها وإلا لتم إفسادها إذا ما دخلها أكثر من واحد.
إن كل هذه الآليات المستخدمة لجمع الذكر بالأنثى وإجبارهما على التزاوج ومن ثم جمع الخلية الذكرية بالخلية الأنثوية وإجبارهما على الاندماج ببعضهما لا تكاد تذكر من حيث صعوبتها مع عملية التزاوج الثالثة والأخيرة والتي تتم بين الكروموسومات الذكرية والأنثوية والتي ستنتج برنامج موحد لتصنيع الكائن الجديد. إن برامج تصنيع معظم أنواع الكائنات الحية من الضخامة بحيث يلزم كتابتها على عدد كبير من الكروموسومات والتي يحمل كل منها جزءا محددا من برنامج التصنيع الكلي. فالشريط الوراثي في الإنسان على سبيل المثال مكون من ستة وأربعين كروموسوما بأطوال مختلفة وكل زوجين منها مسؤولة عن تصنيع أجزاء محددة من جسم الإنسان تمكن العلماء في هذا العصر من كشف كثير من تفصيلاتها. ولكي يتم تجميع برنامج تصنيع الكائن الحي من الكروموسومات التي تحملها الخلية الذكرية وتلك التي تحملها الخلية الأنثوية بعد دمج الخليتين معا يجب على كل كروموسوم ذكري أن يبحث عن نظيره الأنثوي ويتحد معه ليكونا معا زوجاﹰ من الكروموسومات فيه نسختان متشابهتان إلى حد ما من تعليمات التصنيع. إن أكبر ما يحير العلماء هو الكيفية التي تتمكن بها الكروموسومات الذكرية من التعرف على نظائرها الأنثوية والاتحاد بها وهي أشرطة ليست كالكائن الذكري والأنثوي التي تتزاوج بدافع الشهوة وليست كذلك كالخلية الذكرية والأنثوية التي تتحد بواسطة المواد الكيميائية التي تفرزها.
ويتطلب نجاح طريقة التكاثر الجنسي أيضا أن تكون كروموسومات الذكر والأنثى متماثلة تمام التماثل من حيث الطول وعدد الجينات وهيكلهما العام وأن يكون لكل جين على الشريط الذكري جين مناظر على الشريط الأنثوي له نفس الطول ويقومان بنفس المهمة إلا أنه قد يوجد بعض الاختلاف في محتوى الشيفرات بحيث يكون ناتج التصنيع مختلفا بعض الشيء في مواصفاته. وفي حالة وجود اختلاف بين محتويات الجينيين المتناظرين فإن أحدهما يعطى الأولية على الآخر عند تنفيذ البرنامج وهذا ما أسماه علماء الأحياء بالجين السائد أو المسيطر بينما سمى الآخر بالجين المتنحي أو المنحسر. ومما يدل على صرامة هذه الشروط هو استحالة حدوث التكاثر بين فردين من نوعين مختلفين وإذا ما حدث مثل هذا بين نوعين شديدي القرابة فإن الكائنات الناتجة تكون في الغالب عقيمة كما نشاهد ذلك في البغال التي تنتج من تزاوج الخيل والحمير. إن منتهى الإبداع في طريقة الخلق هذه أن برنامجي التصنيع يتم خلطهما عند كل عملية تزاوج بين الذكر والأنثى وتتبادل الجينات السائدة والمتنحية أماكنهما في البرنامجين ولكن تبقى البرامج تعمل بكل كفاءة وتنتج كائنات لا يصيب أعضائها أي خلل وتحافظ على المظهر العام للكائن رغم التغيير الحاصل في بعض صفاته. فعلى الرغم من أن عدد أنواع الكائنات الحية يعد بالملايين ويوجد في كل نوع من هذه الأنواع أعداد متفاوتة من الأصناف إلا أنه لا يمكن أن يشتبه الأمر على الإنسان فلا يستطيع التفريق بين هذه الأنواع أو أنه ينسب الأصناف إلى غير أنواعها.
إن الهدف من التكاثر الجنسي كما ذكرنا سابقا هو إحداث هذا التنوع المدهش في أشكال وألوان ملايين الأنواع من الكائنات الحية من خلال وجود نسختين مختلفتين من الكروموسومات التي تقوم بتصنيع الكائنات الحية في الخلية الوحيدة التي تبدأ منها عملية التصنيع. ولقد تمكن علماء الأحياء من تأكيد حقيقة وجود زوجين من برامج تصنيع جميع أنواع الكائنات الحية التي تتكاثر بالتزاوج حيث اكتشفوا أن برنامج تصنيع كل نوع منها يحتوي على نوعين فقط من الجينات لهما نفس الوظيفة العامة إلا أنه يوجد بعض الاختلاف في تركيبهما والذي يؤدي إلى اختلاف في أشكال بعض مواصفات الكائن المنتج. فقد لاحظ عالم النبات النمساوي جريجور مندل في منتصف القرن التاسع عشر بعد أن قام بسلسلة من عمليات التهجين لبعض أنواع النباتات أن أشكال وألوان معظم أجزاء النباتات تتحدد من صفتين تتناقلها هذه النباتات في جيناتها أحدهما صفة سائدة (dominant trait) والأخرى صفة متنحية (recessive trait). وقد لاحظ أنه إذا ما اجتمعت صفة سائدة وأخرى متنحية في برنامج التصنيع النهائي للكائن الجديد فإن الصفة السائدة هي التي ستظهر في بنية جسمه ولا تظهر الصفة المتنحية إلا عند اجتماع صفتين متنحيتين في برنامج تصنيعه.