سواليف
“ليبيا بلد صنعته الجغرافيا، تؤثر فيه بكل ثقلها وتنتقم من كل من لا يحترم حتميتها”، يبدو أن لهذه المقولة الكثير من الوجاهة الآن بعدما تغير المشهد بشكل دراماتيكي في الغرب الليبي عقب سيطرة حكومة الوفاق المعترف بها دولياً على قاعدة الوطية المحصنة الإثنين 18 مايو/أيار 2020، وقبله تغير مواقف دولية هامة كانت داعمة للواء المتقاعد خليفة حفتر أهمها موقف حلف شمال الأطلسي “الناتو”.
ففي كل يوم تتصاعد الأزمة الليبية يثبت تأثير الموقع الجغرافي للبلاد على إعادة التوازن للمشهد في شمال إفريقيا فإن التصريحات الأخيرة للأمين العام لحلف الناتو “ينس ستولتنبيرغ” الداعمة لحكومة الوفاق والتي أشار فيها لصحيفة ريبوبليكا الإيطالية أنه لا يمكن وضع حكومة الوفاق وقوات خليفة حفتر في كفة واحدة وأن الحلف مستعد لمساعدة حكومة الوفاق وأن تركيا حليف قوي وعضو مهم في حلف الناتو.
هذا السياق أثار تساؤلات بين المراقبين والمتابعين عن سياق وتوقيت هذا التصريح، خاصة وأنه بعد يومين من التصريحات سقطت قاعدة الوطية بيد حكومة الوفاق واستولت عليها بالكامل، فكيف ستؤثر هذه الأحداث والتصريحات في المشهد الليبي؟ فهل حلف الناتو سيكون طريقاً للتقريب بين قوى كبرى كتركيا وفرنسا الدولتين العضوين في حلف الناتو؟ أم أن الحلف يحاول أن يقوم بذلك الدور وهذه مجرد بداية؟ أم أن تفاهمات حقيقية تجري في حلف الناتو لمنع التواجد الروسي في شمال إفريقيا مما يجعل حفتر يدفع ثمن استنجاده بالروس؟ وهل خسر حفتر المعركة في طرابلس وفقد ثقة داعميه؟
ماذا وراء التصريحات الأخيرة لقادة حلف الناتو؟
لو عدنا لسياق التصريح في اللقاء مع الأمين العام للحلف فإنه من الواضح أن التصريح جاء بعد نقاش داخل الحلف حول الموقف من ليبيا، ورشحت بعض المعلومات إلى أن اتفاقاً فيما يبدو داخل الحلف بأن التواجد الروسي في ليبيا، واستمرار نشاطات الجماعات الإرهابية في الجنوب الليبي وصعوبة ضبط الحدود الليبية؛ وحالة الجمود التي عليها الأزمة الليبية قد لا تكون هي الوضع المثالي للحلف والدول الأعضاء فيه، لذا فإن التصريحات تأتي بهذا المعنى لبيان أنه لا يمكن الانتظار طويلاً حتى يعيد خليفة حفتر بناء نفسه وتوجيه فوهة بنادقه مجدداً ضد قوات حكومة الوفاق، كما أن التصريح فيه حديث عن تركيا وأنها حليف مهم خاصة بعد السؤال عن دورها في ليبيا وسوريا، وهذا يؤكد أن تركيا قد استطاعت أن تسد فراغات لم يقم الحلف بملئِها مما جعلها أكثر قدرة على المبادرة، وأعطى لوجهة النظر التركية المدعومة بتقدمات حقيقية على الأرض المصداقية في عرض أفكارها وتصوراتها على أعضاء الحلف، وهذا فيما يبدو جعل رؤيتها أقرب للتوافق بين أعضاء الحلف.
هذا يتأكد كذلك بقول الأمين العام للحلف إنه يجب احترام حظر تصدير السلاح لليبيا مما يؤكد ( التصريح) في مضمون أن نقاشاً قد جرى بين أعضاء الحلف وأن توافقاً حدث حول منع تدفق السلاح، وهذا يعطي ضمناً موافقة على عملية إيرني المزمعة من الاتحاد الأوروبي لمنع تصدير السلاح إلى ليبيا، فهو توافق حول أهمية الدور الذي تقوم به تركيا في ليبيا لمنع الفوضى المحتملة إذا ما استطاعت القوات الداعمة لحفتر الدخول لطرابلس وتعطيل مؤسسات الدولة، وكذلك اتفاق حول ضرورة أن يقف تصدير السلاح لليبيا، وهنا ربما يأتي دور حلف الناتو فهو هو القوة الأنسب للقيام بهذه المهمة: منع تصدير السلاح إلى ليبيا.
حلف الناتو شمال إفريقيا
كلما امتدت الأزمة الليبية صارت مخاطرها الإقليمية أكثر تأثيراً وضغطاً على الدول المنخرطة في هذا الصراع، فمنطقة شمال إفريقيا دائماً محل نزاع بين القوى المطلة على البحر المتوسط فالنزاع الآن هو نزاع جغرافي واستراتيجي بامتياز، فالقوى الأوروبية؛ إيطاليا وفرنسا تعرف كما هي عاجزة أمام ديناميات الصراع في ليبيا، فإن السرعة التي تواجدت بها تركيا في ليبيا غيرت الموازين بشكل لافت، في البداية سيطرة جوية على المنطقة الغربية، بعد ذلك كانت السيطرة على ثماني مدن ساحلية وامتد الأمر للسيطرة بالكامل على قاعدة الوطية الاستراتيجية في 18/5/2020.
أيضاً تأخر الدول الأوروبية في حسم أمرها في ليبيا قد فسح المجال لروسيا؛ عن طريق دعم خليفة حفتر في طرابلس فروسيا مارست دور الحرب الهجين بدعم مجموعات “فاغنر” للدخول إلى طرابلس، وقد تقدمت هذه القوات بالفعل لولا أن التدخل التركي قد قلب المعادلة وجعل المنخرطين في ليبيا بين خيارين إما الدخول في حرب حقيقية مع تركيا أو الاستمرار في الدعم العسكري لخليفة حفتر الذي بدا ظاهراً أنه لا يملك من صفات القيادة العسكرية ما يمكن الرهان عليه طويلاً.
لذا سنجد أن سلوك فرنسا وروسيا حاول -بعد ذلك- أن يحافظ على ما تبقى من قوات لخليفة حفتر دون أن تقديم دعم له يجعلها في مواجهة مباشرة مع تركيا. من كل ذلك يمكن القول إن خيار حلف الناتو قد يحل الإشكال بين هذه الدول فهل هنالك اتفاق مثلاً على أن تمثل تركيا الحلف ويستمر تواجدها وفق محددات يضعها حلف الناتو أم أنه من المبكر الحديث عن ذلك؟
ما الذي يمكن أن يقدمه حلف الناتو لليبيا؟
حلف الناتو بالطبع لن يتدخل في الشأن الليبي في إطار عملية عسكرية كالتي حدثت إبان الثورة، لكن من الممكن أن ينظم الحلف بالتعاون بين أعضائه قضايا تقنية عسكرية كثيرة تضع المشهد الليبي برمته في إطار توازن بين الدول الأعضاء في حلف الناتو ويحافظ الجميع على مواقفه في إطار الحلف، وهو بهذا يحدث توازناً يمنع من التصعيد بين فرنسا وتركيا، ويمنع فرنسا من المضي قدماً في دعم مصر والإمارات اللتين لن تستطيعا منع روسيا من استغلال هذه الفرصة التاريخية لأن تجد موطئ قدم عسكرياً في شمال إفريقيا؛ الحلف قد يعطي غطاءً مهماً لدعم الوجود العسكري لتركيا ولبعض عناصره لمنع قيام روسيا بأي عمليات في ليبيا ومنع كذلك تعزيز قواتها في الشرق الليبي؛ فإن صح أن فرنسا لن تقف في مواجهة تلك الاستراتيجية الكبرى التي بني عليها الحلف وهي مواجهة روسيا في شمال إفريقيا فإن ذلك سيعني تنظيم وضبط العمليات العسكرية التي يقوم بها حفتر -وهذا ستضمنه فرنسا بالطبع- ووضعها في سياق استراتيجي لا يضر بالحلف وحلفائه مع استمرار الضغط على كافة الأطراف للمضي قدماً في المفاوضات السياسية.
هل خسر حفتر داعميه؟
ربما تشير كل هذه التغيرات في المشهد الليبي إلى تبدل أكبر في سياق المواقف الدولية، فما الذي جعل حفتر يخسر الدعم الذي قدم له في بداية عمليته بطرابلس؟ هنا بعض الأسباب:
الهزائم العسكرية لقوات حفتر في جنوب العاصمة، والخسائر المتوالية من غريان في الجبل إلى مدن الساحل ومؤخراً خسارته لأهم قاعدة جوية في الغرب الليبي وهي قاعدة “الوطْيِة”.
تسريب الكثير من المعلومات الاستخباراتية في كل هزيمة من هزائم حفتر، فلا ننسى مثلاً حجم الوثائق والمعلومات التي استحوذت عليها قوات الوفاق من غرفة عمليات غريان فضلاً عن الأسلحة التي صارت دليلاً عينياً ضد دول كفرنسا والإمارات ومصر بخرقها لقرار حظر توريد الأسلحة إلى ليبيا، وذلك سبب حرجاً كبيراً لهذه الدول خاصة فرنسا.
الاتفاق التركي الليبي الأمني والعسكري والذي أعاد تنظيم قوات الوفاق وخلق أمراً واقعاً فاق القدرات الاستراتيجية لمصر والإمارات التي كان تحاول أن تدعم حفتر بشكل سرّي، ورغم مجازفة تلك الدول بدعم حفتر إلا أنه لم ينجز أي إنجاز يعطيها الحافز للاستمرار.
استعانة حفتر بروسيا جعلت الولايات المتحدة الأمريكية تتحفظ على عمليات حفتر في طرابلس، وهذا ربما سمح لتركيا بالتمدد في الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة الأمريكية وسط تردد أوروبي واضح جعل تأثيرها أضعف من تركيا.
قصر نظر السياسة الخارجية الفرنسية جعلها غير قادرة على رسم معادلة واضحة عن الأوضاع في ليبيا لذا فإن مراقبة سلوك فرنسا يبين بوضوح أنها تتأرجح في مواقفها من ليبيا خاصة بين مؤسسة الرئاسة ومؤسسة الدفاع والخارجية.
جائحة كورونا جعلت دولاً كثيرة تكتفي بالتصريحات السياسية لبيان موقفها من المشهد الليبي دون أن يتبع ذلك أي سلوك على الأرض.
هذه الأسباب مجتمعة جعلت من حفتر يخسر معركته في طرابلس، ولم يتبق أمام حكومة الوفاق سوى مدينة ترهونة لتعلن نهاية العدوان على طرابلس ورد قوات حفتر من حيث أتت، فما الذي سيحدث في الأيام التالية في المشهد الليبي؟.
سيناريوهات الغرب الليبي
يمكن القول مما سبق إن خسارة حفتر في الغرب الليبي هي خسارة عسكرية وسياسية. عسكرياً خسر أغلب المناطق التي سيطر عليها في بداية عدوانه، كما أنه خسر الكثير من الأسلحة والعتاد وفي قاعدة الوطية التي سيطرت عليها حكومة الوفاق مؤخراً تشير المعلومات من المقاتلين في القاعدة إلى سيطرة قوات الوفاق على عدد كبير من المنظومات والذخائر والأسلحة المتطورة. هذا سيضغط على حفتر وداعميه لتوفير الموارد المالية والبشرية للاستمرار في المعركة أو التراجع نحو الشرق للدفاع على آخر معاقل حفتر.
سياسياً خسر حفتر الكثير من الحلفاء من القبائل الليبية في الغرب الليبي، فقد سقطت صورة القائد الذي لا يهزم وظهر لكثير من شيوخ القبائل أن التحالف مع حفتر محفوف بكثير من المخاطر وقد تكون عاقبته خطيرة على أهل تلك المناطق وعلى صورة الزعامات القبلية الموالية لحفتر في الغرب الليبي. أما دولياً فإنه كما تبين من موقف حلف الناتو وموقف الولايات المتحدة الأمريكية والتصريحات المتوالية من الأمين العام لحلف الناتو حول جرائم حفتر في طرابلس قد يظهر بوضوح أن حفتر في أحسن الأحوال قد ترك لمصيره، حتى روسيا يشير تقرير صحيفة المونيتور في 13 مايو/أيار 2020، إلى أن تراجعاً ملحوظاً في دعم حفتر من قبل الكرملين. مصر والإمارات ستظلان تدعمان حفتر في موقفه لكنهما ستبدآن في البحث عن أطر جديدة للتعامل مع الملف الليبي خاصة إذا كان هنالك تطور في الموقف الأوروبي وموقف حلف الناتو الداعم لحكومة الوفاق. من المرجح أن تستمر هذه الدول في دعم حفتر بالقدر الذي يبقي المعركة قائمة إلى أن تصل لحل يحفظ ماء وجهها ويحقق ولو نزراً يسيراً من مصالحها.
هذا التراجع لزخم حفتر عسكرياً وسياسياً يجعل من الغرب الليبي على مقربة من التخلص من عدوان حفتر الذي استمر لأكثر من سنة بين القصف والتدمير، دون أي جملة استراتيجية تتجه بها ليبيا نحو الحل لأزمتها الراهنة.