أزمات العالم ليست سياسيّة أو اقتصادية

#أزمات_العالم ليست سياسيّة أو اقتصادية

#ماجد_دودين

يشهد العالم اليوم العديد من الأزمات والصراعات والحروب التي تتنوع بين النزاعات السياسية، والتحدّيات الاقتصادية، والاضطرابات الاجتماعية، ولكن عند التأمل العميق، والتفكير الدقيق نجد أن جوهر هذه المشكلات وأساسها وجذرها ليس سياسياً أو اقتصادياً بحتاً، بل هو في حقيقته مشكلة أخلاقية بالدرجة الأولى. فالأزمات التي نعاني منها جميعاً في كل قارات العالم ليست سوى انعكاسٍ لانحدار القيم الأخلاقية وانحطاطها، وتراجع المبادئ الإنسانية التي تدعو إلى العدل والتسامح والتعاون والسلام والتعايش وحقوق الإنسان . ويقفز إلى الذاكرة فوراً حديث الحبيب المحبوب المصطفى صلى الله عليه وسلّم الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: “إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاق” وفي روايةٍ (صالحَ) الأخلاقِ”. الألباني – السلسلة الصحيحة.

كانتِ العربُ تَتخلَّقُ ببعضٍ مِن محاسنِ الأخلاقِ بما بقِيَ عندهم مِن شريعةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، ولكنْ كانوا قد ضلُّوا بالكُفرِ عن كثيرٍ منها؛ فبُعِثَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيُتمِّمَ محاسنَ الأخلاقِ، كما يُؤكِّدُ هذا الحديثُ؛ حيث يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: “إنَّما بُعِثْتُ”، أي: أُرْسِلْتُ للخلْقِ، للبشرية جمعاء “لأُتَمِّمَ”، أي: أُكمِّلَ ما انتقَصَ، “مكارمَ الأخلاقِ”، أي: الأخلاقَ الحَسنةَ المحمودة، والأفعالَ المُستحسَنةَ الَّتي جبَلَ اللهُ عليها عِبادَه؛ مِن الوفاءِ والمُروءةِ، والحياءِ والعِفَّةِ، فيَجعَلُ حَسَنَها أحسَنَ، ويُضيِّقُ على سيِّئِها ويَمنَعُه.

مقالات ذات صلة

أزمة القيم قبل الأزمات السياسية والاقتصادية

إنّ العالم الحديث يشهد تناحراً مستمراً بين الدول والمجتمعات، وكثيراً ما يتم تحميل السياسة أو الاقتصاد مسؤولية هذه الفوضى. لكن إذا نظرنا بعمق إلى جذور الأزمات، سنجد أنها نابعة من غياب الأخلاق، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى القيادات والمؤسسات. فالأزمات الاقتصادية مثلاً لا تنشأ فقط بسبب نقص الموارد أو سوء الإدارة، بل أيضاً بسبب الجشع والطمع والاستغلال غير العادل للثروات. وكذلك الأزمات السياسية لا تعود فقط إلى اختلاف الأيديولوجيات، بل إلى غياب الصدق والنزاهة، وانعدام الإحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين.

الإسلام والأخلاق: الحلّ في فهم آيةٍ واحدة

لو تأملنا القرآن الكريم، لوجدنا أن الحل لجميع أزمات البشرية يكمن في استيعاب آية واحدة من كتاب الله الحكيم، والعمل بمضامينها العظيمة السامية، وهي قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)). سورة الحجرات -13. هذه الآية الكريمة ترسم مبدأً عظيماً في التعامل بين البشر، وهو أن اختلاف الناس في الأعراق والقبائل ليس سبباً للصراع، بل هو وسيلة للتعارف والتعاون. إنّ الله لم يخلق البشر ليكونوا أعداءً، وإنما ليعيشوا في وئامٍ وسلام، ويتعاونوا على الخير والبرّ والتقوى عملا بقوله تعالى:”…. وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) سورة المائدة.

التعارف بدلاً من التناحر

إنّ حقيقةَ كوْن الناس مُختلفين في سجاياهم وثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم وألوانهم وأعراقهم وأجناسهم، ليس سبباً للتنازع والتناحر والتدابر فيما بينهم بل على العكس يجب أن يكون الاختلاف سببا للتعارف والتآلف والتعاون المتبادل بينهم عملا بقوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا * إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ * إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ركّزوا مليّا وتدبروا قوله تعالى وهو أرحم الراحمين وأعلم العالمين: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ ” فالخطاب من الله إلى كل الناس في كل الكون وحتى يرث الله الأرض ومن عليها ………وتأملوا قوله تعالى (( لِتَعَارَفُوا)) ولم يقل سبحانه: لِتَقاتَلوا – أو ليكره أو يظلم أو يقتل أو يسلب أو يحتلّ أو يدمّر بعضكم بعضا بل جعلنا الله سبحانه وهو أحكم الحاكمين وأكرم الأكرمين شعوباً وقبائل لنتعارف ونتآلف ونتعاون على كل خيـــــــــــر..

التقوى معيار التفاضل

في الآية الكريمة، نجد أن معيار التفاضل بين البشر ليس المال ولا الجاه ولا القوة، بل التقوى. فالتقوى هي جوهر الأخلاق، وهي التي تجعل الإنسان عادلاً، ورحيماً، ومتعاوناً، وصادقاً، وأميناً. عندما تصبح التقوى مبدأً في حياة الناس، سيقل الظلم ويضمحل، وستنتشر العدالة، وسيُحترم الإنسان بغض النظر عن أصله أو لونه أو لغته. إنّ التقوى ليست مجرد عبادة شكلية، بل هي سلوك يومي ينعكس في تعاملات الإنسان مع غيره، سواء في التجارة، أو في السياسة، أو في العلاقات الاجتماعية.

نحو عالمٍ أكثر إنسانية

إذا أردنا أن نعالج مشاكل العالم، يجب أن نبدأ بإصلاح القيم الأخلاقية. علينا أن نُعيد للصدق مكانته، وللرحمة دورها، وللعدل سلطته. يجب أن ندرك أن العالم لن يصبح مكاناً أفضل بالصراعات السياسية أو بالأنظمة الاقتصادية المتطورة فقط، بل سيكون كذلك عندما تكون الأخلاق هي المعيار الأول في العلاقات بين الأفراد والمجتمعات. إنّ العودة إلى القيم الإنسانية التي دعا إليها الإسلام من خلال تتويج وحي الله إلى الأرض، ودعت إليها الكتب السماوية السابقة في صورتها الأصلية، هي الخطوة الأولى نحو تحقيق السلام العادل والشامل والحقيقي.

إن المعايير التي وضعها الناس من تلقاء أنفسهم، ليست مقبولة عند الله ولا يرضاها. وربما يكون من اعتبر رجلاً عالي المكانة في العالم هو الأدنى في حكم الله النهائي، وربما الذي ينظر إليه على أنه شخص متدني للغاية هنا، يصل إلى مرتبة عالية جدًا هناك. إن الأهمية الحقيقية ليست في مقاييس البشر بل فيما يناله الإنسان من الله أحكم الحاكمين وأعلم العالمين. ولذلك فإن أكثر ما ينبغي للإنسان أن يهتم به هو أن يصنع في نفسه تلك الصفات والخصائص الحقيقية التي تجعله أهلاً للتكريم عند الله تعالى. قال صلى الله عليه وسلّم: ” إنَّه لَيَأْتي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَومَ القِيامَةِ، لا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ، وقالَ: اقْرَؤُوا {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]. صحيح البخاري.

إنَّ اللهَ تعالَى لا يَنظُرُ إلى أجسامِ النَّاسِ وصُوَرِهم، وإنَّما يَنظُرُ إلى التَّقوى الَّتي في القُلوبِ، وقد ذمَّ اللهُ تعالَى المنافقِينَ أصحابَ الأجسامِ القويَّةِ المعْتدلةِ، ولكنَّهم كالأخشابِ المسنَّدَةِ إلى الحائطِ لا يَسْمعونَ ولا يَعقِلونَ؛ فهم أشباحٌ بلا أرواحٍ، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4].

وفي صحيح البخاري ” مَرَّ رَجُلٌ علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: ما تَقُولونَ في هذا؟ قالوا: حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ يُشَفَّعَ، وإنْ قالَ أنْ يُسْتَمَعَ، قالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِن فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، فَقالَ: ما تَقُولونَ في هذا؟ قالوا: حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ لا يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ لا يُشَفَّعَ، وإنْ قالَ أنْ لا يُسْتَمَعَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هذا خَيْرٌ مِن مِلْءِ الأرْضِ مِثْلَ هذا.”

المِيزانُ عندَ اللهِ يَختلِفُ عن المَوازينِ عندَ النَّاسِ؛ فكَثيرًا ما يَقيسُ النَّاسُ بَعضُهم بعضًا بِمَوازينِ الدُّنيا مِنَ الجاهِ والمالِ والسُّلطانِ، أمَّا المِيزانُ عندَ اللهِ فَهو بِقُربِ العبدِ إليه وبتَقْواهُ؛ قال اللهُ تعالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

إذا فهمنا مراد الله تعالى في هذا النداء الخالد للبشرية فسوف ندرك أنّ السلام بين الناس والدول يجب أن يكون القاعدة الدائمة، والحرب هي الاستثناء الذي يقتضيه الخروج عن هذا التناسق المتمثل في دين الله الواحد، الخروج بالبغي والظلم، أو بالفساد والاختلال … ويجب أن نتعاون لإزالة كل الأسباب التي تثير في الارض الحروب والنزاعات… وأن نبطل ونحارب ونمنع كل الحروب التي باعثها وهدفها الكسب غير المشروع والظلم.

إن هذه الأهداف النبيلة التي يأمرنا الله سبحانه بتحقيقها …يمكننا تحقيقها بيسر وسهولة إذا تبنّينا– عقيدة صافية سليمة … عقيدة حكيمة صادقة تمتلك الخصائص التالية على سبيل المثال لا الحصر:

  • عقيدة تشجب الحروب التي تثيرها القومية العنصرية، لأنها تناقض حقيقة أنّ الناس كلهم من أصل واحد.
  • عقيدة تشجب الحروب التي تثيرها المطامع والمنافع: حروب الاستعمار والاستغلال، والبحث عن الأسواق والخامات واسترقاق المرافق والرجال.
  • عقيدة تنظر للبشرية وتعدها كلها وحدة متعاونة وجزءا من وحدة كونية.
  • عقيدة تأمر بالتعاون على البر والتقوى لا على الاثم والعدوان.
  • عقيدة تَعِدُ البشرية كلها بتحقيق العدل المطلق، بغض النظر عن الجنس أو اللون أو العقيدة.
  • عقيدة تحرّم الحروب التي يثيرها حب الأمجاد الزائفة لبعض الرؤساء والملوك أو الحكام.
  • عقيدة تحقق العدالة في الأرض قاطبة وتقيم القسط بين البشر عامة. العدالة بكل أنواعها: العدالة الاجتماعية، والعدالة القانونية، والعدالة الدولية.
  • عقيدة تهدف لتحقيق السلام العالمي وتنظر إليه كهدف يمكن الوصول إليه وتحقيقه كجزء لا يتجزأ من الحياة والذي يجب أن يحكم كل مجالات النشاط الانساني.
  • عقيدة تؤكد على السلام الذي يشمل الحرية والعدالة والأمن لكل الناس.
  • عقيدة تنشر السلام أولا في ضمير الفرد، ثم في محيط الأسرة، ثم في وسط المجتمعات. وأخيرا في الميدان الدولي بين الأمم والشعوب.

إن العقيدة التي ينبغي تبنيها لتحقيق السلام العالمي تتطلب السلام في علاقة الفرد بربه، وفي علاقة الفرد بنفسه، وفي علاقة الفرد بالمجتمع. ثم تنشده في علاقة الطائفة بالطوائف، وعلاقة الأفراد بالحكومات ثم تنشده في علاقة الدولة بالدولة بعد تلك الخطوات.

وهل هناك عقيدة تمتلك كلّ هذه الخصائص غير العقيدة الإسلامية … فالإسلام هو دين السلام والحب والخير والنور والجمال والحق والعدل والمساواة والتسامح والتعاون على البر والتقوى ونبذ الإثم والعدوان.

إنّ الحل الحقيقي لأزمات العالم لا يكمن في صراعات السياسة ولا في حسابات الاقتصاد، بل في العودة إلى جوهر الأخلاق ومنابعها الصافية. وما أعظمها من رسالة حملها القرآن الكريم في آية واحدة تلخص فلسفة التعايش بين البشر: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)). إذا أدرك الناس هذه الحقيقة، وتبنّوا هذه القيم في حياتهم، فإن العالم سيشهد تحولاً جذرياً نحو السلام، والتعاون، والاحترام المتبادل وكل ما هو جميل ونبيل وأصيل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى