أخلاقيات الغرب في اللجوء

#أخلاقيات #الغرب في #اللجوء
عماد أحمد العالم

بعيدا عن المعركة الجارية رحاها بين روسيا وأوكرانيا، أو الغزو الروسي، أو استدراج الغرب وأمريكا على وجه الخصوص لبوتين للمستنقع الأوكراني، أجد ربما من غير المجدي الكتابة عما يجري على الأرض كون المشهد يتغير في كل لحظة، وتختلف معطياته باستمرار، ولذلك سيكون حديثي عن ظاهرة باتت واضحة ولن تتغير معطياتها مهما سيق من تبريرات تلطيفها لاحقا، وتخفيف وقعها الصادم، المتنافي بدوره مع منظومة حقوق الإنسان الغربية، والمواثيق الدولية والأممية في تعاملها مع اللاجئ أيا كان عرقه ودينه ولغته.
بشكل لا لبس فيه، ظهرت مقاطع عديدة لمراسلين ومذيعين ومسؤولين رسميين من أوكرانيا ودول أوروبية على قنوات تلفزيونية بما فيها الأمريكية، وهم يعبرون صراحة عن ضرورة مساعدة الشعب الأوكراني، ذو الأصول الأوروبية المسيحية، والخلفية المتحضرة المتعلمة، متماثلة القيم مع الغرب المتمدن، والذي يجب الوقوف إلى جانبه بمحنته، وتسهيل لجوء مواطنيه لدول الجوار والعالم دون تعقيدات، دون أن يضطروا ليكونوا بموقف مشابه لشعوب أخرى تعرضت لأزمات سابقا وحاضرا، بمن فيهم السوريين والعراقيين والأفغان، وبمقارنة فجة واضحة، وعنصرية تنتقص من قيمتهم مقابل الأوكرانيين. هذا بالإضافة لمقاطع مصورة وشهادات صادرة عن صحافيين بولنديين وغيرهم أظهرت رفض سلطات الأمن البولندية دخول غير اللاجئين الأوكرانيين لبلادهم، وتعمدها مع حرس الحدود الأوكرانيين منح الأولوية في الدخول والرعاية للأوكرانيين فقط، مع الإصرار على إهانة وتجاهل دونهم بمن فيهم الأفارقة والطلبة الأجانب، ومعاملتهم بلا إنسانية تصل لحد الايذاء البدني واللفظي.
مثل هذه المواقف بما فيها التصريحات والعبارات العنصرية، وإن كانت صادمة لتظهر بهذه الفجاجة والصراحة المطلقة دون مواربة، لم تكن مستغربة بالنسبة لي، فرغم كوني منذ بداية الأزمة وأنا أتبنى موقفا إنسانيا متعاطفا دون شروط ومقارنات سلبية مع أوكرانيا كدولة مستقلة وكيان وجغرافيا، ومع شعبها من مدنيين عزل لا ذنب لهم، إلا أن هذا لا يعني التغاضي عن هذه العنصرية الفجة اللاإنسانية، وازدواجية المعايير الغربية، والتصريحات المشينة، والمواقف المعلنة على الصعيد الرسمي والشعبي والإعلامي المتحيزة للاجئ الأوكراني على حساب كل ما لا ينتمي للعرق الأبيض الصافي.
من المهم تبيان منذ أن بدأت الحرب في سوريا، استقبلت دول الجوار وأوروبا وأمريكا الشمالية ملايين اللاجئين السوريين دون شروط، بل بتعاطف كبير رسمي وشعبي، تكشفت سوءاته بعد وضوح الفجوة الثقافية، وتزايد هوة اندماج اللاجئين السوريين بدول المهجر، لتتحول الأنظمة المتساهلة لشديدة التعقيد، مع تزايد الأصوات الرافضة والمطالبة بتقييد اللجوء. فبين بداية متعاطفة، ووسط متفهم ساعيٍ لدمجهم، لنهاية متشددة ترفضهم، استكمل السوريون مراحل اللجوء الثلاث، التي حتما يمر الأوكرانيون الآن بمرحلتها الأولى، دون أدنى شك بأن الأزمة لو طالت، ستخضعهم للمرحلتين اللاحقتين. لذلك لن أستغرب أن تظهر أصوات أوروبية غربية بعد فترة، عنصرية تجاه الأوكرانيين الأوروبيين الشرقيين، غير المتوائمين مع قيم أوروبا الغربية، بعد انقضاء فترة التعاطف، والتعامل على أرض الواقع بعقلانية مصلحية بحتة.
بداية، ألتمس العذر لكل من تتعرض بلاده للغزو والاحتلال، وسأفترض أن معاييره الأخلاقية شعبيا ورسميا تضمحل مع المعاناة، فإن صرخ طالبا الغوث متذرعا بكونه أوروبي مسيحي من أبناء جلدته، فهذا من منطلقات عفوية تفرضها اللحظة لاستدرار عطف من ينتمي لهويته. فالجميع يمارس الأسلوب نفسه، ونحن كعرب ومسلمين رددناها مرارا وتكرارا، مستصرخين وطالبين العون من إخوة الدين والعرق بكل أزمة مر بها أحد شعوبنا، ولذلك لا يمكنني لوم الآخرين إن قاموا بها. أما ما لا يمكن تقبله هو طلب النجدة على حساب الاستنقاص من الآخر، والاستخفاف بآدميته ومآسيه التي لا تقل عنه سوء. وهذا ينطبق على الأوكرانيين والغرب بصفة عامة بكافة مؤسساتهم وأفرادهم كما سمعنا وشاهدنا. وهو ما يشير إلى تلك العقيدة من الذات الاستعلائية الغربية المترسخة في اللاوعي الأوروبي، بفوقيتها وعلو مكانتها عرقا ودينا وحضارة على سواها، وهي بواقعها من لم تغب عن وجدانهم خلاف ما يدعون ونصت دساتيرهم. فهي وإن توارت، فسرعان ما تظهر حال نشوء الأزمات، كما شاهدناها الآن جلية دون تجميل.
مرة أخرى، سأحاول أن أكون واقعيا بطرحي، موضوعيا بعيدا عن العاطفة. مفترضًا أن ظاهر المقاطع والتصريحات المذكورة آنفاً عنصري كباطنه، ولكن ألا يجدر بنا القول إن نظرة الشعوب إلينا نابعة مما تسببنا به أولاً لأنفسنا، فنحن كشعوب من يعلي مكانتها ويخفضها. كما أننا كعرب ومسلمين، وشعوب العالم الثالث لسنا بعيدين عنها، ممارسين بتفوق للعنصرية والاقصاء والتصنيف نفسه وأقسى على بعضنا، فلو كنا أمة عربية مسلمة ذات مكانة وقيمة عليا بين الأمم لما تجرأ أحد توصيفنا بما يقلل من قدرنا ومكانتنا.
علماً أنني لا أنكر عنصريتهم الظاهر منها والباطن، وازدواجية المعايير لديهم، فقد مررنا بأزمات أثبتتها على مدار عقود، ولكن ألا يجدر بنا مرة أخرى من باب المكاشفة ألا نلقي باللائمة على عنصرية الآخرين وإقصائيتهم بتعاملهم معنا دون الأخذ بالاعتبار كونها تشكل نظرتهم لنا منذ قرون. أليس الأجدى بنا أن نثبت لهم ولأنفسنا عمليا لا افتراضا بأننا قيمة عليا لا تقل عنهم مكانة. حينها، أغلب الظن ألا أحد سيجرؤ على ازدرائنا واستنقاصنا.
‏لماذا لا نقر قبل لعن الغرب ولومه بأن العلة فينا قبل الآخرين. ومن هنا يكمن الحل والنهج إن شئنا أن نعامل بما نستحق!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى