أحذية تتنفس وشعوب تختنق / د . ديمة طهبوب

أحذية تتنفس وشعوب تختنق
إن تقنية الهواء النشط Active Air هي آخر ما توصلت إليه صناعة الأحذية البريطانية في مصانع كلاركس للأحذية Clarks ومتاجرها الشهيرة التي يزيد عمرها على القرن والمنتشرة في جميع أنحاء العالم. إن هذا التطور لا يقتصر على توفير حذاء مريح أنيق لكافة أشكال وقياسات الأقدام وإنما يتعدى ذلك الى تزويد الحذاء بمادة تمكن القدم من التنفس وتمنع التعرق وتركز الرائحة وتزيد من ليونة الحذاء لتسهيل الحركة.
أي حضارة هذه التي تحرص على أقدام شعوبها؟ وإذا كان هذا مستوى العناية بصحة القدم فكيف يكون العناية بباقي الجسد؟ وهل تحرص البلدان الأوروبية على مواطنيها من أول الرأس الى أخمص القدمين؟
إن هذه التقنية ليست صرعة أخرى في باب الموضة والتنافس التجاري في الإضافات والتحسينات فقط، فهذه شعوب تعمل وتجد وتكدح لساعات طوال فلا بد من توفير ما يسهل مهمتها ولو كان شيئا بسيطا كحذاء مريح يريح جسد المواطن من الآم الظهر والقدمين حتى يرتاح عقله وتزيد انتاجيته.
وحتى أسعار هذه الأحذية تحمل في طياتها رسائل مهمة عن الحياة ومستوى المعيشة الأوروبية، ففي أول الموسم تنزل الى السوق بأسعار مقبولة بمعدل 60 جنيه مع مراعاة نزول السعر الى أكثر من النصف في فترات التنزيلات الشتوية والصيفية وفي المناسبات المختلفة حتى يستطيع جميع المواطنين باختلاف مستوى دخلهم اقتناء مثل هذه الأحذية المريحة، فالرفاهية ليست حكرا على الأغنياء، وإنما يمكن للجميع أن يذوقوا طعمها.
يبدو أننا يجب أن ننظر الى الأحذية بشكل آخر وإكبار أكبر يتعدى كونها نعالا تلبس في القدم لأغراض الحركة الخارجية، وكمكمل للملابس والأناقة، فالحذاء في عصرنا اكتسب معاني اجتماعية وثقافية وسياسية، ففي آخر الأخبار عن الأحذية ذكرت وكالات الأنباء أنه تم عرض حذاء رئيسة وزراء أوكرانيا السابقة يوليا تيموشينكو التي خرجت من السباق الرئاسي في متحف العاصمة، وهو حذاء برتقالي اللون ارتدته أول مرة عندما ناشدت الشعب الأوكراني بمساندة قائد الثورة البرتقالية فيكتور يوشينكوفي احتلال القصر الرئاسي، فأصبح الحذاء من المقتنيات العامة وتوثيقا لمرحلة من تاريخ أوكرانيا السياسي، وهو حذاء أيضا داس به الجنرال غورو على قبر صلاح الدين الأيوبي في دمشق بعد احتلالها قائلا: «لقد عدنا يا صلاح الدين»، وهو حذاء داس به الجنرال اللنبي أرض القدس قائلا: «الآن انتهت الحروب الصليبية»، وهو حذاء ضرب به شرذمة رعاع تمثال صدام بعد إسقاطه وسقوط بغداد وتمرجلوا عليه فيما لم يجرؤوا على قول الحق في وجهه عندما كان في عنفوان سلطته!
بالمقارنة يا ترى: هل شعوبنا لابسة أم ملبوسة؟
هل تتنفس الشعوب هواء الحياة الكريمة حتى نقلق على تنفس أقدامها؟
ما نوعية الهواء والأنفاس في المخيمات والخيام والعشوائيات ومساكن المقابر؟
هل تعمل الرئة بشكل مختلف بين الأغنياء والفقراء فيكون نفس الأغنياء من النخب الأول والخمسة نجوم في النقاوة والقوة والانسيابية؟
ما دور الشعوب تجاه بعضهم البعض وإذا غابت السلطة العليا فهل يغيب التضامن الاجتماعي؟ في الزمن الجميل يروى ان صحابيين كانا يسيران في طريق، فانقطع نعل أحدهما فخلعه، فخلع اخوه نعله وسار معه على الرمضاء الحارقة حافيا فاستوقفه اخوه فسأله: لم فعلت هكذا؟ أجابه لأعينك على الحفاء.
لقد ظننا أن حذاء الزيدي الذي طال أكبر الرؤوس في حينه سيمثل مرحلة انعتاق للشعوب العربية من الرؤوس الصغيرة التي وضعتنا تحت أحذيتها سنين وسنين بين الأصل والصورة والأب والورثة، ولكن يبدو أن سوء الحال لا يرضى الفكاك عنا كحذاء أبي القاسم الطنبوري في القصة الشعبية الذي جلب له المشاكل ولم يستطع الخلاص منه.
عندما سأل الضابط سرحان عبد البصير في مسرحية شاهد ما شافش حاجة عن سبب بكائه الذي هرعت إليه الشرطة والاسعاف والمطافئ قال: «أتاري الجزمة حازقة (صغيرة) عرجلي».
يبدو إذن أن الأحذية هي السبب في كل مصائبنا ومدامعنا، ويجب أن نعيد التفكير فيما نلبس، ومن يلبسنا!
قال جون وليامز: «ما فائدة الدنيا الواسعة إذا كان حذاؤك ضيقا؟».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى