
لماذا يرغب الناس في التشارك بأفكارهم؟
د. #أيوب_أبو_دية
منذ بدايات #التاريخ، كان #الإنسان كائناً
يتحدث ويتواصل ويترك أثراً. لم تكن #اللغة فقط أداةً للبقاء، بل كانت مرآةً داخلية للدوافع والمشاعر والأفكار. وفي كل حضارة، ظهرت طرق متعددة للتعبير: الإشارة، الكلام، الكتابة، الرسم، الموسيقى، المسرح… كلها كانت إجابات مختلفة لسؤال واحد: لماذا نشارك أفكارنا؟
أولاً، الحاجة إلى الفهم وتأكيد المعنى. وعندما يعبّر الإنسان عن أفكاره، فهو لا يسعى فقط إلى إخبار الآخرين، بل يسعى أيضاً إلى فهم نفسه. فالفكرة حين تبقى في الداخل تكون غائمة ومشوّشة، ولكن عندما تتحول إلى كلمات منطوقة أو مكتوبة أو إلى لوحة فنية، تتجلى ملامحها وتتضح معانيها، خاصة عندما تناقش. فالكتابة تشبه ترتيب غرفة فوضوية، والفن يشبه ترتيب العاطفة في شكل مرئي أو مسموع.
ثانياً، الرغبة في التواصل وبناء العلاقات: الإنسان ليس مستقلاً في وجوده، بل كائن اجتماعي بطبيعته. ومشاركة الأفكار هي بمثابة جسر نحو الآخر؛ كلمة صادقة أو قصيدة أو مقالة أو أغنية قادرة على فتح باب علاقة جديدة، أو التقريب بين فردين اختلفا في الرأي. فالتواصل الفكري يصنع تقارباً عاطفياً، ويخلق مساحة مشتركة يتداخل فيها العالم الداخلي مع عالم الخارج.
ثالثاً، التأثير في العالم وصناعة أثر: كثير من الناس يكتبون أو يتحدثون أو يبدعون فناً لأنهم يؤمنون بأن أفكارهم يمكن أن تغيّر شيئاً: شخصاً، أو موقفاً، أو وعياً مجتمعياً. البعض يشعر أن لديه ما يستحق أن يُقال، أو يخشى أن تضيع الفكرة إن لم تُشارك، ففي المشاركة وعدٌ ضمني بالخلود: “ها أنا كنت هنا في زمن ما”. وفي هذا تجاوز للموت الذي أرّق الإنسان منذ الأزل.
رابعاً، التنفيس العاطفي والتحرر النفسي. أحياناً، لا يريد الإنسان جمهوراً يهتف له أو اعترافاً بالتميز، بل يريد أن يخفف ثقل الفكرة في داخله. فالكتابة تشبه العلاج النفسي؛ والفن مساحة لتمرير الألم أو الفرح دون قيود. والتعبير هنا ليس تسويقاً للفكرة، بل تحرراً منها.
أخيراً، البحث عن التقدير أو الاعتراف. فقد يفصح الإنسان عن أفكاره بحثاً عن تصفيق، أو تعليق، أو نظرة إعجاب. وهذا ليس نقصاً، بل جزءاً طبيعياً من حاجتنا البشرية للشعور بأننا مرئيون ومعترف بنا. نحن نشارك لأننا نريد أن نترك أثراً في ذاكرة أحدهم، أو في الذاكرة الجمعية كي يصبح للحياة معنى.
وهكذا، فإن الرغبة في التشارك بالأفكار ليست نزوة عابرة، بل ممارسة إنسانية عميقة الجذور. إنها امتداد لحاجتنا إلى الفهم، والتواصل، والتأثير، والتغيير، والتحرر، والاعتراف. في كل كلمة تُقال، وفي كل نص يُكتب، وفي كل لوحة تتشكل، يعلن الإنسان شيئاً بسيطاً ولكن عالي القيمة في الوقت نفسه، فقد يكون ابداعا نحن في أمس الحاجة له.
مقولات كثيرة هزّت العالم لأنها لم تكن مجرد بضع كلمات، بل إعلان وجود ورغبة في الفهم والتغيير. عندما قال مارتن لوثر كينغ: “لدي حلم” لم يكن يصف حلماً فحسب، بل أعاد تشكيل معنى العدالة والحقوق المدنية في أميركا والعالم. وعندما كتب غاندي: “كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم” تحولت الجملة إلى منهج حياة للملايين الساعين للسلام واللاعنف. أما روزا باركس، فبكلمتها البسيطة “لا” عندما رفضت ترك مقعدها في الباص، أعلنت ثورة ضد التمييز العنصري. وفي مجال العلوم، قال ألبرت آينشتاين: “الخيال أهم من المعرفة” ففتح باب الابتكار أمام أجيال كاملة. هذه العبارات لم تغيّر التاريخ لأنها ذكية فقط، بل لأنها عبّرت عن حاجة إنسانية عميقة للتواصل والتأثير والتغيير والتحرر.




