تحالفات الإخوان المسلمين افتراق عن الأصل والتقاءٌ مع النقيض؟! / عبدالرحمن الدويري

بعد أن فشل أردوغان في التفاهم مع حزب السعادة، وأحزاب المعارضة وأطلقه عبارة “ليس بوسعنا إلا أن نقول لها وداعاً” أثار جملة تساؤلات محورها كيف ينجح الإخوان المسلمين إقامة تحالفات سياسية مع أشد خصومهم التارخيين ويفشلون في إقامتها فيما بينهم وبين شركاؤهم السابقين الذين استقلوا في أحزاب منفصلة، وهو مشهد متكرر الأردن ومصر ثم عللوا السبب:بـأن الفجور في الخصومة،هو الذي يقف وراء هذا المشهد! لكن الحكم الذي أطلقوه لا يبدو مقنعا،ولا مُنصفا،وهو جائر لا يعبر عن حقيقة المشهد،والجواب على تساؤلهم ممكن سهل ميسور,لكن لمن راقب المشهد في العمق، بحيادية وموضوعية،ونظر إليه من زوايا مختلفة،غير الزاوية التي حشرنا فيها المتسائلون قاصدين أو غير قاصدين! الحالة التركية محل التساؤل: فلو نظرنا للحالة في تركيا عموما لوجدناها قد بلغت قدرا كبيرا من النضج الدستوري،والوعي الشعبي،والرسوخ الحزبي والأداء السياسي،والفعل الديمقراطي،وهذه الميزات ليست موجودة في الأمثلة التي سيقت للمقايسة بنفس السويّة،وهي في حدودها الدنيا إن وُجدت،أضف لهذا قلة المعرفة – لدى غالبية المتسائلين- بالخريطة الدقيقة للتباينات،والتقاطعات بين التيارات السياسية والفكرية هناك -لغير المتخصصين- مع يقيننا أن إخوان تركيا،غير مُتشرّبين بالفكرة الإخوانية تشرّبا كاملا،ولم يصلوا بها لمستوى النضج بالقدر الذي نراه في إخوان مصر والأردن -لأسباب ليس هنا موضع شرحها- وليس لهم تمثيل حقيقي في الكيان الدولي لمكتب الإرشاد،الذي يعتبر بمثابة إطار معنوي للتنظيمات العالمية،وغير متدخل في إدراة شؤونها الداخلية أبدا،ومع ذلك يمكننا القول والإجابة بثقة: أن تقاطع المصلحة مع الخصوم السياسيين والإيديولوجيين،شيء طبيعي، وشائع بكثرة،وتتعاطاه الدول والفرق والطوائف المفترقة المتباينة:دينا ولغة وأعراقا وثقافة،وعلى أساسه تَبني تحالفاتها المصلحية،لكن الفارق الجوهري في المسألة،أنه يبقى لكل جهة متحالفة، كينونتها وخصوصيتها،التي لا تُمس،ولا تُهدد،ويبقى لكل منها تصوّره،وبرنامجه،وكوادره مصونة محميّة تماما،وآمنة من الهدر،أو الاستنزاف أو الاستقطاب،وتبقى العلاقة فيما بين هذه النقائض محصورة في إطار تبادل المنفعة، أو درء المفسة. المشكلة في التنظيم الإخواني المصري والأردني مختلفة تماما: فالمشكلة هنا –ويصدق هذا على حزب السعادة- تكمن في أن المكونات التي انقسمت على ذاتها الأولى (الجماعة الأم)، غالبا ما تتعاضد في معادلة صراعها تعقيدات كثيرة،تتعدد فيها موجبات النزاع،بدواعي الكولسة والصطفاف،وتتعدد الدوافع والأسباب،وتتكدس معها أسباب التوتر،فتتصاعد وتتنامى،بالفعل والفعل المقابل،وبالدعوى وردِّ الدعوى،والزعم وما ينقضة،والبرهان وما يدحضة،وتتداخل الأهواء،وتتكاثف غمامات الافتراق،ويتداخل الشخصي بالعام،والمبدئي بالمصلحي،والخدمي بالنفعي،وتبرز التشاحنات الشخصية وتطغى،ويتم استمراء البعض للكيد،ويتم استدعاء الكذب،واجتلاب الحِيل،والتفنّن في الاختلاق،وتحريف الكلام،واستساغة اتهام النوايا،والاتكاء على الظنون،وحشد التُّهم جزافا بلا بيّنات،وتَضمر الضوابط الأخلاقية،وتتركُّز الرغبة بالانتقام،والسّعي لإفحام الخصم،والتدليل على عدم أهليته،بُغية حشد الأنصار،وانتزاع الأنصار من الكوادر،لتعظيم الكيانات الجديدة،على حساب الكيان الأصيل! الحفاظ على الكينونة وصيانة الثوابت،معامل أساسي يحكم علاقة الجماعة الأم، بالكيانات الموازية: في هذه الأجواء في هذه الأجوء،وبشكل غريزي لا إرادي،يندفع المكوّن الأصيل للحفاظ على كينونته،والكيانات الموازية لإثبات وجودها،وتتراجع فرص التلاقي والتقبّل،ويتكرر مشهد “صِفّين والجمل وكربلاء”،وتُرفع المصاحف على الرماح من كل طرف،ويولد ألف “حسين” وتتلاشى الفرص أمام لحظة مخاض تأتي بـ “الحسن” الذي يصلح بين فئتين مؤمنتين،فلا ينزل طرف لطرف،ولا يقبل به،ولا يرتضيه ممثلا أو شريكا في مصلحة أو منفعة،ويسعى كل فريق لإثبات وجوده،وكثيرا ما يصل الأمر بالطرف الأضعف لاستمراء الاستقواء،بكل ما يدعم موقفه،ومن أي جهة، سعيا لحيازة المؤسسات والعقارات العينيّة،والنقدية،وربما الإرث المعنوي،بصورة غير مشروعة،ولا مقبولة،من الأغلبية الساحقة من الكوادر التي ظلت متمسكة بالأصل مقتنعة به،ومتعلقة بالأساس الفكري،وجذر المشروع التاريخي،وهي مستاءة من حالة التشاحن والتدافع هذه،ولا يعنيها أطراف النزاع ومحرّكيه شيئا،بقدر ما يعنيها الكيان نفسه،ليبقى متماسكا سالما مستمرا على ثوابته ومشروعه! في أجوا التدافع التنظيمي الداخلي يُنظر للكيانات الموازية بعين الريبة، وتشكل حالة استفزاز للكيان الأصيل، يُعاظم من محددات التعامل معها: في هذه الأجواء تغدو العناوين والكيانات الجديدة -مع كونها ضعيفة مبتدئة- حالة استفزاز،وقلق دائم للمكون الأول،الذي احتفظ بأغلبية الكوادر،وأصل الفكرة،ويتعزّز النظر للكيانات المنشقة بعين الريبة،إذ قَصُرَ نَفَسُ أصحابها عن الاستمرار في المكون الأصيل،وعجزوا عن تحقيق قبول الأغلبية لإنفاذ رؤاهم،فاجترؤوا،وغادروا مربّعهم الطبيعي،وحملوا المشرط واجتهدوا في محاولة اقتطاع حصصهم،فيتأكد هذا الإحساس تجاههم باعتبارهم المسؤولين عمّا آلت إليه الأمور،وعليهم أن يتحمّلوا تبِعات ما أقدموا عليه،وأن يقبلوا بحجمهم الطبيعي،الذي لم يعترفوا به أثناء وجودهم في محضن الجماعة،الذي غادروه ساخطين. الجانب النفسي وسيكولوجيا السلوك، وتنابذ الأقران، معامل آخر يقليل من فرص الاستيعاب: أهواء نفوس،وتضخم الأنا،وعِلل القلوب،هي عنوان الأزمة هنا،يلمس هذا كل مدقق في المشهد،وبناء عليه- وحسب نظريات علوم النفس وسيكولوجيا السلوك- يغدو من الصعب تقبُّل هذه الأطرف لبعضها البعض،على هذه الخلفية،وهذا شيء غريزي جُبلت عليه النفوس،حتى أن عائشة -رضي الله عنها- لم ترضَ بموقف الإمام علي -رضي الله عنه- في حادثة الأفك،وبقي جرحه نازفا في ونفسها،بعد ذلك سنوات طويلة،وفي هذه السياق نفهم أبيات المثقب العبدي،حين قال: فإنِّى لوْ تخالفني شمالى خلافكِ ما وصلتُ بها يميني إذاً لَقَطَعتُها ولقُلتُ: بِيني كذلكَ أجتوى منْ يجتويني الأمثل في حل هذا المشهد المتشابك من مسؤولة الطارئ لا الأصيل بالنظر المنطقي والتاريخي وليس العكس: من هنا نرى أنه لا مسوّغ لاستغراب المتسائلين عن هذه الظاهرة،لو نظروا لها من هذه الزوايا،ولا نرى حلا لمثل هذا الإشكال إلا بتوليد “الحسن الجديد” من الكيانات الموازية ذاتها،لإنهاء الحالة التي خلقوها،والعودة للمربع الأول،والعمل من خلاله على التصويب والإصلاح،وتعظيم حالة القبول لما يطرحون بالإقناع الموضوعي والعلمية المنهجية طويلة النّفس،ووضع الرؤى والاستراتيجيات القريبة والبعيدة،والأنية والمرحليّة،بعد التوافق الثابت والمتغير، ومَديات المرونة في المتغير،لأنه هذه النقطة تمثل أصلا من أصول الافتراق في الطرح الفكري الذي نُشخِّصُه هنا،وإن كان –بنظر المنشقين- قد حقق نجاحا واضحا،كما في الحالة التركية،لكنها تعتبر حديثة، غير عميقة الجذور،ومرتبطة بكاريزما الشخص،لا بعمق الطرح،وهي تقف على الحافة في نسبة الاجتياز،كماأظهرت انتخابات الدورة الأخيرة،وهي تواجه معارضة فكرية وبرامجية عريضة مدعومة من الداخل والخارج،ونرى أن استدعاء هذه التجربة من قبل الكيانات الموازية في مصر والأردن، ضرب من الخيال،وإغراق في التّوهّم،لأسباب موضوعية ليس هنا مجال بحثها. تعليل الظاهرة ليس بالبساطة التي طرحها المتسائلون،بل ينطوي على كثير من المغالطات،حاولنا تفكيكها بأسلوب سهل ميسور كما ر رأينا،ولا بوارق للأمل تلوح في الأفق لترميم الحالة،والأمر متروك للزمن وتفاعلات الواقع،ومتغيرات السياسة، وأشكال السلطة ومرجعيات القرار في الداخل والخارج،ولا يسع الجميع إلا الترقُّب والانتظار لما ستسفر عنه الأحداث، فيظهر المصيب من المخطئ في تقدر الموقف،وفي المذهب الذي ذهب إليه، وارتضاه لنفسه،ويتحمل كل طرف تبعات اختياره بناء عليه، أو يمتلك الشجاعة في الاعتذار كخطوة للتراجع التصويب. a_dooory@yahoo.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى