حديث الذكريات : أرجوحة الأستاذ عواد / ماجدة بني هاني

حديث الذكريات : أرجوحة الأستاذ عواد

تبعثرت الطفلة في باحة الروضة الممتدة ،كانت الباحة أوسع مما ينبغي، في مدينة كالزرقاء, من حيث أتت الطفلة للتو ، لا وجدان للمساحات.

في وسط الساحة شجرة توت عملاقة ،علمت بعد حين أنها من العهد الروماني،وبناء حجر بازلتي قديم ، تحيط بالشجرة ألعاب طفولية مستهلكة، وأرجوحة جميلة هي أكثر ما لفت أنظار الطفلة ،بلا وعي اقتادتها قدماها لتلك اللعبة الشهية ،طالما تمنتها! عالية وفي ظل شجرة وارفة الظلال
حين همت في الصعود ..اهتزت بصرخة عالية: يا،بنت.. إلى الداخل ،اللعب في حصة التنفس…..
إنه الأستاذ عواد أبو الخير،معلم الأطفال،رجل في نهاية الخمسين ،بخيزران طويلة ونظارتين كثيفتين ،ونبرة عالية فيها حزم وشدة ،والطفلة رقيقة ،غريبة وخائفة ،لم تعتد بعد على الأقران ولا المكان ،وما هو آتٍ في الحسبان ،ولماذا يسمونها حصة تنفس ؟ ترى ماذا يحصل في الداخل ؟
كان الأستاذ عواد من المتعلمين القلائل في تلك الحقبة ، قديم في القرية كقدم أشجارها العتيقة ،تخرجت أجيال على يديه ،وكان المتخرج يكون حافظاً لجزء عم وكاتبا وقارئا،ومنشدا،وعارفا بعض العمليات الحسابية ،فقط إذا هو صمد وأنهى متطلبات الروضة بسلام.

يجلس الأستاذ أمام طلابه، بنبرته العالية الحازمة و يبدأ الدرس : الف با بوباية…. تطال خيزرانه أبعد طالب ،هنالك تُحتبس الأنفاس ولا صوت إلا لطالبٍ نبيه ٍحافظ يثير الإعجاب ،فيعطيه الريادة ويحوله لمعلم يقرأ ، ويردد الآخرون بعده…
ينتهي الدرس ،ويحمل الطلاب على عاتقهم هم الواجبات والمحفوظات المطلوبة في الغد،وإلا فمصير تلك الخدود للاحمرار ثم الازرقاق،أو سبغ الأطراف بلهيب الخيزران…

مقالات ذات صلة

ومما كان يخفف على الأطفال قسوة الحال وجبتان من غذاء كانت تقدم خلال النهار: الأولى من الحليب ،والثانية بعيد الظهر وجبة طعام تصنعها أم محمد ؛كانت متطوعة في الجمعية الخيرية التابعة لها هذه الروضة -الروضة الوحيدة في القرية- كانت السيدة عشرينية زوجة لشهيد ضابط استشهد في حرب كان الأهل في القرية يسمونها حرب الفدائية ،كانت ترعى أيتاما وكان الحنان يشع من يديها.كانت كالواحة الخضراء في صحراء عواد .
وكان للحليب من يدها مذاقاً خاصأ،فيه الأمان والسلوى .
أما حصة التنفس،فكانت تمنح بعد نفاذ آخر نفس قبيل المغادرة.
كم كنت قامعا لنا يا أستاذ عواد! وكم لذيذة ذكرياتك رغم قسوتها ،وما أحوجنا لمثلك هذه الأيام !!

ورغم كل شئ، ثمة مفارقتان عجيبتان:
أذكر جيداً أن الطفلة هربت من الروضة بعد شهرين من بدء العام ،وآثرت السلامة على التمتع بالتوت والحليب .وما زالت الأرجوحة القديمة تتأرجح في خاطرها ،عالية مظلله تحت توتة عملاقة…..
وأذكر أنها كانت تفزع إذا مر الأستاذ عواد من أمام بيتها ،تهرب ظانة انه آتٍ لأخذها ،وكانت الخزانة هي مخبئها المعتاد.
والمفارقة الثانية ،أنه وبعد سنوات ومن غرائب الصدف ،صارت الطفلة خليفة عواد الأولى ،معلمة في تلك الروضة. كم كنت فخورةً بملء مكانه ، بعد أن مرض الأستاذ وكبر في العمر… فخورة بالمنصب رغم الدراهم المعدودة ،التي كنت بحاجتها، والتي كشفت لي كيف يبذل الانسان عمره بلا تقدير ، كم كان أجرك زهيدا ! وكم كان أثرك في الجيل عظيماً !
،أذكر تماما أنني حين دخلت للمرة الأولى تلك الروضة بعد هذا العمر ،بحثت عن خيزران الأستاذ فلم أجدها..
فتساءلت : هل غادرت معه هذه الدنيا ؟
وهل ينفع أن أرث مكانه بلا خيزرانه …
رحمة الله عليك يا أبا الخير ،وجزاك الله عنا خير الجزاء…..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى