في سجن الجويدة (٩) / محمود الشمايله

في سجن الجويدة (٩)

النزيل ابو مشعل:

واخيرا منحني السجن سرير حديدي بائس طابق ثاني، في الحقيقة كان ذلك من تدبير ابو مشعل الذي حرص على حسن إقامتي ورفادتي، لذلك حرص على أن يكون بجواره .

مضت ساعات اليوم بتثاقل كبير ، أغلقت أبواب المهاجع جميعها ، اطبق الصمت على المكان ، الانارة الخافتة منحت المكان قداسة تشبه قداسة الكنائس ،
غرز ابو مشعل كوعة بعد أن جمع الوسادتين معا اشعل سيجارة رخيصة تماما كأوقات السجن أو ككل الأشياء الرخيصة هنا.
ابو مشعل رجل خمسيني اكتسب سمرة وجهه من تلك الصخور التي تتسورحول وادي الكرك ، مربوع لا هو بالطويل ولا القصير ، أكثر ما يميزه ذلك الشارب الاسود الغزير الذي أطلقه بعناية فائقة ، مما أكسبة ملامح قاسية لا تشي سوى بالحزم والشدة .
مضى الوقت وانا احاول ان استدرج ابا مشعل في الحديث عن سبب وجوده هنا ، على نحو ما كنت أظن أنه من الممكن أن يكون أحد متعاطي المخدرات ، غير أنه بدد شكوكي عندما منحني درس في أهمية الوعي المجتمعي لمكافحة هذه الآفة الخطيرة، ثم راح يتحدث بأسى عن الشباب الذين يسكنون الأسرة السفلية المتهمين بالتعاطي.
سألني ابو مشعل الا تشتاق للخروج من هنا ؟
قلت :نعم أن أتوق إلى ذلك…
قلت كم مضى على وجودك هنا يا ابا مشعل؟!
سبعون يوما …
سبعون يوم…..ما

عدّل ابو مشعل من جلسته ، تغيرت ملامحه حين فنجل عينيه راح ينظر في عيني بدهشة الحائر من وقع السؤال.

مد يده إلى علبة السجائر ، وأشعل سيجارة أخرى ، سحب نفسا عميقا ثم بدده في سقف المهجع.

خيم الصمت على المكان فيما كنت اراقب تقاسيم وجهه لعلي افسر شيء منها .

وكأنه يحدث نفسه وهو ينظر للمدى.
قال وفي صوته بحة موجعة: لماذا انا هنا.
كان ذلك محض صدفة، الأمر أشبه بكابوس اتمنى ان أصحو منه ، ، ،
كان ظني أنني اقدم خدمة لصديق حتى وجدتني متورط معه فيها ، هرب إلى الخارج وانا ما زلت افكر بكل التفاصيل التي عشتها واوصلتني هنا.
مرة أخرى اواجه وحدتي وقهري ضعفي واسفي.
اشتاق لكل التفاصيل الصغيرة التي اهملتها يوما . وكنت أظنها غير مهمة .
حتى أنني اشتاق لان اغسل وجهي بماء عين سارة وان احتسي فنجان قهوة على مصطبة السيل ،
كم هو رائع أن نجلس على ضفاف السيل وربما نغني الهجيني
حتما سيكون ذلك رائعا فيما لو احتسينا بعض افراحنا هناك ونحن نستذكر ليالي السجن الموحشة.

بدأ صوت ابو مشعل يخفت ببطء شديد، تماما كتلك الانارة البخيلة التي تجود علينا ببعض النور.

اسندت ظهري للحائط وأشعلت سيجارة أخرى وروحي معلقة على مشجب احزان ابا مشعل الذي غاب عن تفاصيل اللحظة وسافر مع أشواقة إلى واد الكرك …

كم اشتاق لابنائي،
اما أصغرهم، ساصنع له شطيرة الزيت والزعتر وسارافقه إلى المدرسة ، كان يطلب مني ذلك مرارا غير اني كنت اعتذر منه لانشغالي بأمور أكثر أهمية أو هكذا كنت أظن..
كم كنت غبيا عندما تجاهلت امنياته الصغيرة .
ليته يبقى صغيرا حتى اخرج منها ، أقسم اني ساطبع قبلة على جبينه كل صباح قبل أن احمله على كتفي واوصله للمدرسة.

لماذا نحتاج إلى كل هذا الشقاء كي نفكر في رغبات أطفالنا؟!

لماذا علينا أن نتجاهلها بحجة تضخم وعينا فنظن أن احلام الصغار هي احقر من أن نلتفت إليها في حين أن الصغار يبحثون عن سعادتهم تحت أقدامنا.
يا الهي كم كنت غبيا عندما تجاهلت ذلك.

وكم اشتاق لأمي…
لا شك أنها تراقب المد بعين وتنام بالآخرى تنتظر قدومي من خلف تلال الكرك.
من يجرؤ على أن يفسر لها سبب هذا الغياب؟
وكيف لي إن انظر في عينيها بعد كل ذلك الشوق؟!

تداهمني رائحة الزعتر العالقة في ثوبها، اتعطر برائحة خبزها واستعيد ملامحي في ابتسامتها ولون عينيها.

يقتلني الشوق يا صديقي كما تقتلني وحدتي وقهري..
كان ابو مشعل قد تكور على السرير كطفل موجوع وثمة دمعة كانت تقتحم وجنتيه…..
ظل يلقي بالكلمات كراهب موغل في الايمان وانا كنت امارس صمتي في محراب احزانه حتى لا أفسد عليه لحظة تطهير الروح.

لا أدري كم مضى من الوقت وانا اراقب رجل قاسي الملامح صار طفلا لمجرد انه قال ( انا تعبان يمه …. احضنيني البرد ينخر عظامي..

انا وابو مشعل وجدران السجن كنا نبكي بفارغ الصمت…

كان صوت آذان الفجر يتسلل إلى المكان ويسحبنا من تفاصيل اللحظة ويلقي بنا في ذات المهج.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى