” جعلوني أغترب ” / م.أنس ابراهيم معابرة

” جعلوني أغترب ”

لماذا تغترب؟ سؤال يطرحه عليك الكثيرون، ويبحثون داخلك عن إجابة واضحة ومحددة، بل وينتظرون منك تفسيراً وتوضيحاً يفسر إقدامك على هذه الخطوة. إن ما إكتشفته في الفترة الأولى من الغربة أن المغترب اليوم في نظر الكثير من أبناء شعبه خائن، لأنك تركت وطنك وذهبت لكي تبحث عن وطن جديد، وطن تستطيع فيه أن تحقق إمنياتك بسهولة، ووطن تدفع فيه جزءً من كرامتك وحريتك مقابل تحقيق تلك الأمنيات.

مع لحظات الغروب وحيث تحاول الشمس أن تقاوم قوى الشد التي تحاول إخفاءها خلف خط الغروب، وبدأت أشعتها تنبسط على سطح البحر في لحظة العناق الأخير، جلس عثمان يتأمل في جمال ذلك المنظر الخلاب، والذي يبعث بالنفس الطمأنينة وراحة البال، ويطرح الكدر وضيق الصدر.

قاطع صوت العجوز المسن الذي يجلس بجانب عثمان لحظات الهدوء الخاصة التي كان يعيشها، حين كان ذلك العجوز يتفاوض مع البحر من أجل سمكة تكفيه مؤنته لذلك اليوم، وكان البحر يرفض أن يعطيه شيئاً حتى ذلك الحين، وتحاول الأمواج بين الحين والآخر أن تلقي بصنارته الى أطراف البحر حيث تتجمع أكوام الرمال.

مقالات ذات صلة

صاح العجوز بعثمان: “من أين أنت؟”، فلقد تعود عثمان على هذا السؤال الذي يسبق التعرف بالأسم، خصوصاً في بلد تجمع بين الأوروبيين والآسيوين والأفارقة والأمريكان، حتى أصبحت تلك الوجوه مألوفة له كثيراً، فأجاب عثمان: “وهل سيغير المكان الذي جئت منه شيئا؟ً”.

إقترب العجوز الى عثمان وجلس بجانبه ثم أطلق تنهيدة طويلة أدرك عثمان معها أن الحديث سيطول، وأن هذا العجوز لديه الكثير الذي قرر أن يبوح به اليوم، وقد كانت لحظته سعده؛ فعثمان اليوم بمزاج جديد ولديه رغبة في الإستماع.

باغت العجوز عثمان بسؤال لم يخطر على باله في الآونة الأخير فقال: “هل تشتاق للوطن؟”، شرد ذهن عثمان عند سماعه لتلك الكلمة طويلاً وكأنه يسمعها للمرة الأولى، وأعادت الى خياله الكثير من الذكريات التي طوى صفحتها حين قرر الإغتراب والذهاب بدون عودة الى الوطن.

الوطن، هو ذلك الطفولة البسيطة التي عاشها عثمان في تلك القرية الصغيرة، بعيداً عن أشكال الحضارة والتطور، بين تلك المنازل التي تخلو من أساليب العمارة الحديثة، وبين تلك الحقول التي تزخر بكافة أشكال الخضار والفاكهة.

رسم عثمان منذ ذلك اليوم طريقاً لحياته، توقعه طريقاً سهلاً بسيطاً، كالبساطة التي كان يعيش فيها، فهو لم يدرك بعد تلك الصعوبات الجمة التي تقف في وجه الناس اليوم، وما زالت أفكاره ضيقة، لا تتعدى نهاية الشارع الوحيد في قريتهم.

وما أنهى عثمان تلك الطفولة الهادئة الى أن إلتحق بأشكال الدراسة المختلفة، حيث كان يجد في متابعة دراسته متعة كبيرة لا يشاركه بها الكثيرون من أقرانه، بل يحاولون الفرار منها الى ورشات الحدادة والنجارة وتصليح السيارات أو الى محلات البقالة وغيرها. ثم وجد نفسه على أبواب الجامعة ليدرس التخصص المرموق الذي طالما حلم به وسعى اليه، فهو اليوم يضع قدميه على أول طريق الطب الذي سيجعل منه بعد عدة أعوام طبيباً مشهوراً.

واجهته الكثير من المعضلات خلال فترة دراسته الجامعية، وتمثلت بالطبقية التي تعرف اليها هناك في الجامعة، فبينما كان يحتاج هو الى أكثر من ساعتين للوصول الى الجامعة بعد تجربة المعاناة في كافة وسائل المواصلات، كان غيره من الطلبة يصل الى الجامعة قبل موعد المحاضرة بدقائق، وينزل من سيارته الفارهة ويتناول كوباً من القهوة المصحوبة بعدة رشفات من السجائر.

وصحيح أن التفوق قد لازم عثمان خلال دراسته الجامعية، إلا أنه لم يعطيه تلك الأهمية التي كان يحصل عليها أيام المدرسة، فهنا الكثير من التبجيل والإحترام والتسهيل في الواجبات والسماح بالتجاوزات لأبناء الذوات، الذين سيصبحون ذواتاً فيما بعد، أما الأناس العاديون فيجلسون على مقاعد التهميش والإقصاء بغض النظر عن مستواهم الأكاديمي.

ظلت تلك التفرقة العنصرية شوكة تغص في حلق عثمان يوماً بعد يوم، وهو يجلس الى أولئك الطلبة من أبناء الوزراء والنواب والأعيان ومدراء الشركات، ويستمع الى قصصهم التي تشبه الخيال، فأحدهم قد وعده والده بمنصب رفيع في إحدى الوزارت، وآخر قد تأمن له العمل في إحدى الشركات التي يديرها عمه، وثالث يطلب الرأي في عدد من الوظائف التي بإمكانه الحصول عليها.

أصبح المشهد أمام عثمان ضبابياً للغاية، وتساءل: “إذن لماذا أمضيت تلك السنوات وأنا أنحت في الصخر من اجل أن أصل الى الجامعة وأتطلع الى عمل أنشل فيه أسرتي من مستنقع الفقر الذي طالما عاشوا فيه، بل وغاصوا فيه أكثر بسبب تكاليف دراستي خلال العشرين عاماً المنصرمة؟ وإذا كانت جميع الوظائف قد أصبحت محجوزة اليوم لأولئك المتنفذين لماذا يتم فتح باب التنافس بيننا عند الطلب للوظيفة، ثم يتم صفع نفس الباب في وجوهنا عند طرقه؟”.

أنهى عثمان دراسته الجامعية وجلس الى جانب العديد من زملاءه على مقاعد البطالة، ولحسن الحظ هنالك الكثير من المقاعد شاغرة في هذا المجال، وما أكثرها تلك المقاعد المنتشرة في المقاهي وعلى جوانب الطرقات، وأخذ يراجع مسلسل حياته الذي بدى وكأنه في حلقاته الأخيرة.

لقد تجمد الوضع تماماً الآن، وتوقفت جميع تلك المخططات التي كان يرسمها عثمان في مخيلته، فبعد أن تبدد حلم الوظيفة التي كان ينتظرها تأجل الكثير من الأحلام أيضاً، فأسرته ستبقى تقاوم الغرق في مستنقع الفقر ذاته، وحلمه بتكوين أسرة والبحث عن زوجة أصبح من المستحيلات اليوم، وتوقف التفكير كذلك في ذرية تحمل أسمه، أو حتى في متابعة تعليمه الأكاديمي وتحسين مستواه المعيشي.

لم تطل حالة الجمود في حياة عثمان، فلقد كان محظوظاً حينما حصل على وظيفة في أحد المراكز الصحية لدى أحد الأطباء، وكان سعيداً بممارسته لعمله على الرغم من قلة الأجر في نهاية اليوم، إلا أنه أعاد إحياء تلك الأفكار التي بدأت تخبو في مخيلته شيئاً فشيئاً.

أعجب عثمان بواحدة من زميلاته في العمل، وتردد كثيراً قبل أن يكلمها، فظروفه الحالية لا تسمح له بالمضي قدماً في تحقيق أحلامه، أضف الى ذلك تكاليف الزواج التي أصبحت تخالط الخيال، فصالات الأفراح تطلب مبلغاً خيالياً يحتاج الى العمل عدة سنوات من اجل جمعه، والذهب تطاول كثيراً ودفع الناس الى أبواب محلات الذهب الروسي ومحلات الإكسسوارات، وكذلك المهر الذي أصبح من هيبة العروس وعائلتها كذلك.

بغض النظر عن المعاناة التي عانها عثمان في حياته كغيره من الشباب هذه الأيام، وعن العقبات الكثيرة التي إحتاج الى العديد من المهارات من أجل تخطيها، إلا أنه الآن أصبح أباً وأصبح لديه أسرة يجب عليه الإهتمام بها وتأمين العيش الكريم لها.

وإنفرجت أساريره كثراً حين تعرف الى أحد الأصدقاء الذي كان بإمكانه تأمين عقد عمل له في إحدى المستشفيات المعروفة في واحدة من دول الخليج، وما هي إلا عدة أشهر مضت إلا ووجد عثمان نفسه يوقع على عقد العمل ويحرر وثيقة خلاصه من همومه المتزاحمة أمامه.

أعادت صيحة العجوز وهو يلتقط خيط صنارته الخالية ويزج به في البحر من جديد عثمان الى واقعه، وأقفلت باب الذكريات الحزينة والتي وصلت الى طريق مسدود، وحينها إلتقط تلك الكلمات من فم العجوز حين قال: “يا بني، حب الأوطان من الإيمان”.

كان وقع تلك الكلمات على عثمان كوقوع السيف في رقبة الجمل، وتساءل عثمان: “وهل غربتي عن وطني تجعل من إيماني ضعيفاً أو تنفيه؟”.

هل بعد أن أصبحت الدراسة اليوم في وطني لمن يملك المال، ومن لديه القدرة على تحمل التكاليف الباهظة من أجل توفير الأستاذة للدروس الخصوصية، وشراء المناهج الدراسية، بل حتى أصبحت الإمتحانات اليوم تحتاج الى الأموال والرسوم؟

هل بعد أن أصبح الجامعات حكراً على عصبة قادرة على تحمل الرسوم الجامعية التي تتغول على دخل الفقير الذي لا يقوى عليها، بل إن بعض الجامعات قد أصبحت ساحاتها معرضاً لسيارات مرتاديها كما أصبحت مكاتب أساتذتها معرضاً للهدايا القيمة التي يحصلون عليها، وأدراج مكاتبهم مكاناً دافئا يحتضن تلك المبالغ المدفوعة من اجل بعض التسهيلات؟

هل أكفر بالوطن بغربتي بعد أن أصبحت الفواتير تثقل كاهلي ولم أعد أحتمل الفواتير التي تباغتني في نهاية كل شهر، وتنهال على راتبي تأكل منه ثم ترمي الي بالفتات الذي لا يكفيني حتى منتصف الشهر الذي يليه، والتي تقف في وجه إرتفاع أسعار المواد الغذائية والتموينية والمحروقات والكهرباء والماء والخبز والضرائب المتلاحقة؟

هل أصبح حبي للوطن محل شك مجرد أنني أردت أن أؤمن لولدي مقعداً للدراسة أو حياة جامعية محترمة، أو وظيفة مناسبة، وزوجة مثالية، أو قطعة أرض يقتات منها ويجد فيها ملاذه وأمانه؟.

هل كفرت بالوطن إن أردت أن أتخلص من أسعاره المرتفعة، بعد أن سيطر “الهوامير” على كل جوانب الحياة، فالسيارات من تخصص الوزير فلان، والقمح هو ميدان العين علان، والذهب هو ملعب مسؤول ثالث، والإنشاءات هي وريثة النائب السابق، والتخليص الجمركي تحت قبضة المسؤول السابق … وغيرها الكثير، حتى باتوا ينظرون الى الوطن على أنه مزرعة ينثرون بها قروشاً بسيطة، لتنبت تلك القروش دنانيراً من الذهب والفضة، وتقتات تلك القروش على أجساد المواطنين الضعفاء والمستهلكين أمثالي وأمثالك وعلى خيرات هذا الوطن المسكين حتى تنمو وتكبر.

أما توزيع المناصب فحدث ولا حرج، فالوزرات في بلدنا حكراً على عائلات معينة، تلك العائلات إتسمت “بالوزارية” كما تتسم بعض العائلات بأنها “ملكية”، ولا أدري عن تلك الصفات التي إجتمعت في تلك العائلات التي جعلتها ترث الوزارات والحكومات المختلفة كابراً عن كابر، حتى أصبح على الوزير أن يدخل إبنه في معترك السياسة مبكراً من أجل أن يألف الوجوه التي سيعمل بها لاحقاً، وأن يرافق أقرانه من أبناء الوزراء الآخرين ليشاركهم اللعب في الطفولة بكرة القدم، كما سيشاركهم اللعب في مصير الشعب عند تسلمه لمنصبه، حتى أصبحت أؤمن تماماً بذلك المثل القائل: “أبن الوزير سيصبح وزيراً، وإبن الفلاح سيبقى فلاحا”.

أما ما نسميه بمجلس الشعب أو النواب؛ فهو يمت الى كل شيء بصلة عدا الشعب، ذلك المجلس الذي يعاني الشعب كثيراً من أجل دخول أسواره المنيعة، وتعدي الحراسات المتكومة على أبوابه وفي جنبات ممراته، وأمام مكاتب ممثلي الشعب يجلس السكرتير الذي يتكلم بجلافة ويقول جملته المعتادة: “سعادته ليس هنا، بإمكانك ترك رسالتك هنا على الطاولة”، فيترك رسالته وهو يعلم تمام العلم بأن مصيرها الى سلة المهملات قبل أن يتم فتحها.

ويتمتع أولئك النواب بالكثير من الحرفية والمهنية العالية، وكذلك تحتوي تلك المجالس على التنوع الذي يجب أن يكون في تلك المجالس، فتجد أصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين والمستوردين، ومدراء الشركات، وأصحاب المحلات والعلامات التجارية، فقد تجد على تلك المقاعد من أصحاب محلات الخضار الى المتلاعبين بأسعار الذهب العالمية.

والغريب في الموضوع أن تلك العصابة تتحول كالمغناطيس الذي يجذب اليه كافة العطاءات الحكومية، ويلتصق بكل ما يمكن أن يدر عليه ربحاً إضافياً، ويتناسى المواطن الذي يعتبر واجبه الأساسي، ولا يذكره إلا حين إنخفاض مستوى مبيعاته، ويصيح بالتجار: “أين المواطن”، أو في حين إنتهاء مدة المجلس وحاجته الى الخوض في إنتخابات جديدة من أجل العودة الى نفس الكرسي الذي شغله للأعوام المنصرمة.

ولكن يبقى القول بأن تلك الفئة يقفون في وجه الحكومة وسطوتها، ويدافعون بشكل كبير وجرئ في ظل قرارات الحكومة المتعسفة، كيف لا؛ وتلك القرارات قد تخفض من قيم الأرباح التي تدرها مشاريعهم، والتي قد تسهم بشكل ما على مستوى التجارة الخاصة بهم، أو قد تجبرهم في بعض الأحيان على دفع الضرائب والأجور.

هل تقول لي أيها العجوز أنني كفرت بالوطن حين أبحث عن باقي صحتي التي أرهقتها سنوات طويلة عانيت فيها من الإهمال الطبي والتكدس في طوابير أمام المستشفيات من أجل العلاج؟ وفي النهاية يحصل جميع المرضى على نفس الدواء على الرغم من إختلاف حالاتهم وتباين أوجاعهم؟ وهل تعلم أن الصحة أصبحت اليوم تشترى حين تقرر التوجه الى إحدى المستشفيات الخاصة، يضعون لك المحلول في الوريد ويأخذون منك الدم بل ويمتصون دم جميع أفراد عائلتك.

واليوم بعد أن قررت أن أغترب من أجل تغيير واقعي الصعب الذي كنت أحياه، ومن أجل تغيير مستقبل أولادي والذي أريده مختلفاً عن ما عانيته أنا، تقول لي بأن حب الأوطان من الإيمان؟ هل تعتقد بأن غربتي عن وطني ستقلل من محبتي له وأن مكوث الكثير من “الهوامير” في الوطن يعبر عن حبهم لأوطانهم وتعلقهم بها؟
أخيراً تحرك خيط الصنارة في إشارة منه الى تعلق سمكة به، جلب الصياد العجوز ذلك الخيط وبدأ بسحبه من الماء، ليكشف في النهاية عن سمكة تعاني من أجل العودة الى وطنها في الماء، إلا أن معدة ذلك الصياد الخاوية قد تكون غربتها القادمة وهي لا تدري.
وقف العجوز دون أن ينبس ببنت شفة أمام هجمات عثمان الكلامية المتتالية، والتي تركت عثمان محّمر الوجه وقد تلاحقت أنفاسه، جمع أغراضه وجهز نفسه من أجل الرحيل بعد أن ضمن عشاء اليوم له ولأسرته في سلة القش التي يحملها بيديه، وحين ولى ظهره صاح به عثمان وهو يقول: “هل إستمعت الى علي بن أبي طالب حين قال (الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة)، حينها أدار العجوز ظهره الى وقد بدت عليه علامات الصدمة، وأنا متأكد بأنه أحس في غربته على الرغم أنه في وطنه.

إهداء الى كل مغترب في هذا الكون الواسع …
إهداء الى أسرة كل مغترب صبرت على غربته …

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى