عندما يصبح الكلام من ذهب

قاسم محمد ابوفارة…
عندما انفصلت الباكستان عن الهند دخلت الدولتان في تنافس محموم على كافة الصعد وخلال وقت قصير اصبحت الدولتان في النادي النووي وكما ظهرت في الهند صناعة سينما تحت مسمى (بوليود) ظهر في الباكستان صناعة سينما تحت عنوان (لوليود) ولكن عدد الافلام التي تنتجها (بوليود) اكثر بكثير من تلك التي تنتجها (لوليود) فصناعة السينما في الباكستان تبدو متأخرة كثيرا عن تلك التي في الهند وهذا يعود في سببه الجوهري الى تلك النظرة الدينية التي تحكم فكرة السينما في الباكستان لذلك نجد ان السينما الباكستانية غير معروفة بل وهناك تصنيف لكثير من الافلام الباكستانية على انها هندية فالاشكال واحدة واللغة الاوردية يتحدث بها مئات الملايين في الهند والباكستان ومن القليل جدا ان نرى فيلما باكستانيا يحقق اقبالا كبيرا وخاصة من الجمهور في الهند مثل فيلم اليوم وهو (hOL) او (تكلم) بمعنى الامر فهذا الفيلم الباكستاني حقق نجاحا غير مسبوق في الباكستان واقبالا شديدا في الهند ونجاحا مدويا لفيلم اجنبي في امريكا وبريطانيا واستراليا وكندا واعتقد ان هذا الفيلم سيصبح من كلاسيكيات السينما الاسيوية وهو فيلم اجتمعت له عناصر النجاح من نص سينمائي كتبه واخرجه الباكستاني (شعيب منصور) وتمثيل اداة ممثلون على درجة عالية من الاندغام في الشخصيات التي يؤدونها خاصة الممثلة (هميمة مالك) في دور (زينب) والممثل (منظر صحباي) في دور الاب (حكيم) وهذا الفيلم هو من النوعية التي تحرك كل مشاعر التعاطف مع الضحية لدرجة قد لا يمسك الكثيرون دموعهم على تلك المأساة التي انتهت اليها شخصية الفيلم الرئيسية وهي (زينب) فعندما تدلت قدماها من اسفل طاولة الاعدام شعرنا بذلك الشيء الذي ينكسر بعمق داخلنا واصبحت تلك الكلمة وهي (hOL) والتي تشكل عنوان الفيلم بمثابة اجراس تدق بعنف في فضاء ملبد بكل اصناف الانتهاك للمرأة والطمس لادميتها وهنا اربط هذه الصرخة وهي تكلم او احكي مع صرخة اخرى في فيلم عربي سبق وان تناولته وهو (احكي يا شهرزاد) فشهرزاد التي ارادت ابقاء رأسها بعيدا عن سيف جلاد (شهريار) يبدو انها تناسلت وتوزعت في جميع انحاء هذا الكوكب الارضي التعس واحدى بنات (شهرزاد) ظهرت في الباكستان.
وتحت اسم (زينب) وهي واحدة من ست فتيات في اسرة لرجل اسمه (حكيم) وكان هذا الرجل رغم تدينه الظاهر الا انه كان من اولئك الذين وصفتهم الاية القرآنية ( واذا بشر احدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ) ولاحظوا الروعة البلاغية لكلمة (يتوارى) فهذه الكلمة تدل على من يشعر بداخله عارا ما لذلك يهرب من عيون الاخرين وشاهدنا (حكيم) في الفيلم يشعر بنوع من العار بداخله لانه انجب ست فتيات لذلك عليه (غسل) هذا العار وانجاب (ولد) وكم من اسرة انهارت بسبب عدم انجاب الزوجة ذلك (الولد) مع ان الرجل هو المسؤول بيولوجيا عن الانثى وقد شاهدنا (حكيم) في الفيلم يقول في مشهد لزوجته (انت تطبخين جيدا وتبرعين في انجاب الكثير من الفتيات) هذه الروح التهكمية الاتهامية يحملها الكثير من الرجال داخلهم عندما يجدون ان اعضاء اسرهم هن من الاناث وفي مشهد اخر رأينا ذلك القفص الذي تعيش فيه الفتيات حيث قالت احدى الاخوات (في منزل لا يسمح لك فيه بأي شيء غير التنفس) وكم هو قفص شديد الضيق عندما نرى ان الصف الخامس الاساسي هو خط النهاية لطموحاتهن في الدراسة وهو خط قسري يتحول الى مقصلة ان مدت اية فتاة راس طموحها خلفه بالرغم ان والدهن وهو (حكيم) يظهر امام الناس بمظهر التقي الورع وهذا يذكرنا بمظهر (سي السيد) في ثلاثية نجيب محفوظ(بين القصرين .قصر الشوق.السكرية) فهناك الفصام السلوكي داخل البيت وخارجه ل¯ (حكيم) في الباكستان و (سي السيد) في مصر ويغوص فيلم اليوم في تناقضات شخصية الاب (حكيم) فهو لا يوافق على تزويج ابنته (عائشة) من (مصطفى) لان هذا الاخير من طائفة اسلامية اخرى بل نرى ان اسرة (حكيم) تخاف اكل صحن حلوى من جيرانهم المختلفين عنهم في المذهب رغم كونهم مسلمين. تصل الاحداث الى نقطة هامة عندما تلد زوجة (حكيم) طفلا ولكن هذا الطفل يكون حالة مزيجة بين الذكر والانثى اي الجنس الثالث فلا يدري الوالد ايفرح ام يحزن ولكنه يصف ميلاد هذا المولود بعبارة (ربيع غير مكتمل) بمعنى ان ولادة زوجته للانثى كان خريفا متواصلا مع ايماني ان الانثى هي تلك اللمسة التي تحتاجها الغيوم لا نزال المطر وهي حبة الندى تلك التي تقبل خد الوردة والتي لولاها ما اطلقت الوردة كل بوح عبيرها.
يكبر الطفل المزيج ويطلقون عليه اسم (سيفي) وفي مرحلة ما يتعرض هذا الطفل لاعتداء جنسي من عدة رجال وهنا يقرر الوالد مصير (سيفي) بطريقة غريبة وعجيبة فيحضر ديوان شعر للشاعر الهندي المسلم المشهور (اسد الله غالب) والذي عاش قبل ظهور الباكستان فيغمض الاب (حكيم) عينيه ويفتح الديوان مقلبا صفحاته عشوائيا ويضع اصبعه على كلمة وعندما يفتح عينيه ويقرا الكلمة تكون من مترادفات القتل والموت هنا يصدر الوالد بداخله حكما باعدام طفله (سيفي) ويقوم بذلك فعلا ويخنقه ورغم مشاهدة البنات لوالدهن وهو يقتل (سيفي) الا انهن لم يجرؤن على كلمة واحدة للشرطة ويكون صمتهن هنا حلقة اخرى من حلقات صمت تحول الى قيود لكرامتهن ووجودهن رغم ان الكلام بصوت عال هو مفتاح هذه القيود لكنهن كن يخشين تحسس برودة هذا المفتاح والذي هو الضامن الوحيد لفتح كوة في الجدار ودخول الشمس اليهن.
اثناء التحقيق من قبل الشرطة مع (حكيم) يسلط الفيلم الضوء على فساد جهاز الشرطة هناك حيث يطلب الشرطي المحقق من (حكيم) مبلغا من المال مقابل اغلاق القضية واخراجه من دائرة الاتهام فيقوم (حكيم) بمد يده نحو نقود تبرعات مسجد كان هو يشرف عليها لاحظوا هنا كيف قاده رفضه للانثى الى سلسلة من الافعال كانت تبعده عن الدين حتى تأتي تلك الخطوة الكبيرة والتي اخرجته تماما من دائرة الدين فهو بحث عن انثى اخرى للزواج والحصول على ذكر فتوصل الى فتاة ولكنها ولدت له انثى اذن خاب سعيه في الركض خلف الحصول على طفل ذكر ويكتشف (حكيم) ان من سهلوا له الزواج من زوجته الثانية (مينا) هم اناس من شبكة تتاجر باجساد النساء وعندما ورطوه بديون كثيرة طلبوا منه الطفلة مقابل الديون فيقوم بمحاولة قتل الطفلة حتى لا يأخذها اولئك الرجال ويتاجروا بجسدها مستقبلا ولكن ابنته (زينب) فكت طوق صمتها وخرجت من ذلك الظل شديد البرودة الى دفء شمس كانت تبعد عنها مقدار خطوة شجاعة واحدة لقد رأت (زينب) في هذه الطفلة الصغيرة مرآة لقهرها فارادت كسر هذه المرأة وفي لحظة مجنونة امسكت ( زينب) بعصا وضربت راس والدها لانقاذ الطفلة من بين يديه فيموت الوالد . اثناء المحاكمة لم تقل (زينب) ولو كلمة واحدة لانقاذ نفسها وبقيت صامتة مما سهل للقاضي اصدار حكم باعدامها.
وعلى منصة الاعدام وهي التي كانت المشهد الافتتاحي قامت (زينب) برواية قصتها بطريقة (الفلاش باك) ورغم انها تحدثت الا ان حكم الاعدام تم تنفيذه وسط جهود اعلاميين الوصول للرئيس الباكستاني واخباره عن هذه الفتاة ولكن الرئيس كان نائما ليلة الاعدام وسكرتيره اعتبر ايقاظه من اجل هذه الفتاة قصة سخيفة. يمثل الفيلم ملحمة انسانية تفيض بالدموع ولا عجب ان جذب الفيلم اعدادا هائلة من المشاهدين في بلد مليء بالانفجارات يخاف الناس فيه من الذهاب للسينما فيخرجون جثثا على نقالات.0

أ.ر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى