صورة على جدار الوطن / يوسف غيشان

صورة على جدار الوطن

عام1956 بعد طرد كلوب باشا من الأردن وتعريب الجيش العربي الأردني ، حاول عملاء بريطانيون تدمير النسيج الاجتماعي الأردني بتواطؤ مع بضعة افراد – من الجهتين- من أيتام الإنجليز، فحدثت اشتباكات في بلدتنا وصار فيها نهب وجرح وقتل، وكان المقصود توسيع الأمر الى حرب اهلية ، وتعود بعدها القيادة البريطانية بحجة ضبط الأمور.
بعد شهر أو اكثر قليلا من انتهاء الأحداث، تواطأ الجميع- بدون تخطيط مسبق- على نسيان الموضوع تماما، بعد أن تمت معالجة تبعاته بتخطيط حكومي ملزم لجميع الأطراف، فلم يكن الجهاز البريطاني الذي خطط للعملية، دون علم الآخرين في الوزارات والمنظمات السرية البريطانية المعنية، لم يكن مستعدا لفضح فشله في الموضوع، كما اهتمت الجهات المتواطئة معه ، من الجهتين،على إخفاء دورها وآثاره. ليس في الماضي والحاضر فقط ، بل في المستقبل أيضا…ببساطة كان من مصلحة الجميع نسيان تفاصيل ما جرى، وليس تناسيها فحسب، وقد نجحوا في ذلك تماما، وعاد الوئام والسلام للجيران، كأن شيئا لم يكن.
ما أن حل العيد، حتى تجمع أهل حي المقبرة ، في بيت المختار أبو اسكندر،على عادتهم كل عيد، ليباركوا لجيرانهم ممن شاركوا في الأحداث المؤسفة، بذات الطريقة المتبعة، حيث يدخلون البيوت واحدا واحدا ، يجلسون في الديوان بعد أن ويباركو للأصحاب البيت بالعيد ، يهنئونهم بالعيد،يحتسون القهوة، ويتناولون حبات السلفانا أو شوكولاتة عاشور أو التمر ، حسب ما يقدمه صاحب البيت، ثم يودعونهم ويدخلون في البيت التالي .
ما ان جلسوا في صالون أبو محمود، حتى أحس الضيوف بأن كبيرهم ابو اسكندر ليس على ما يرام، تغير لون وجهه وهو يثبّت نظره دون أن يرمش، على صورة معلّقة فوق جدار الديوان، نظروا اليها..كانت صورة أبو اسكندر في بذلة العرس، يقف مبتسما بجانب عروسه. لم يستوعبوا في البداية ما يحصل، وانتظروا ، بوجوم وقلق ، ردة فعل ابو اسكندر.
أطرق ابو اسكندر قليلا، ثم رفع رأسه ضاحكا، وقال لأبي محمود:
-الله يجازي بلايشك يا ابو محمود… منين جايب هالصورة؟
-هاي…؟ جابوها الاولاد ما بدري من وين ..أعجبتني وعلّقتها بالديوان.
-هاي صورة عرسي يا ابو محمود .. مش شايف ..أنا وأم اسكندر، قبل عشر سنين.
-شووووووووووووووو..صورة عرسك، قول وغيّر يا رجل؟
-اتطلّع ..شوف زقمي؟
-بس هاظا لابس بذلة..وانته لبيس عربي وشماع ، وهاظ الزلمة مفرّع…وما عمري شفتك لابس مثل أهل المدن.
-استعرت البذلة من (مزيّن دقنه) وم الإكليل ورجعتها.
هذه المرة ،أطرق أبو محمود قليلا، ثم نظر الى الصورة …وحرّك نظرة الى أبو اسكندر…توقف الزمن قليلا….وجوم هائل حط على وجوه الجميع.
-الله لا يعيد هذيك الأيام .
قالها أبو محمود، ثم انتزع اللوحة من الجدار، ووضعها في حضن أبو اسكندر، وهجم عليه مقبلا راسة، فتعانقا، وهم يبكيان…دمعت عيون الجميع.
أبو اسكندر، حمل الصورة وأعادها الى مكانها على جدار الديوان:
-والله ما بترجع…. عندي مسودة الفيلم بسحب غيرها، وهاي بتظل عندك.
-له يا رجل…جيرة الله لا تحرجني …خذها
-ولو…أنا اخوك.
تعانقا من جديد.
بكى الجميع. ومن ذلك اليوم لم يفترق أبو محمود عن أبي اسكندر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى