
القصّيبة
يكثر الأدباء والمتأدبون من تعاطي ماريغوانا الثرثرة حول ذاكرة المكان مذ اقترف غاستون باشلار (غفر الله لهما ) كتابه حول الموضوع ، لكن لم يخطر في بال هؤلاء ( المكانيون ) تسليط الضوء على عمق وأهمية ذاكرة الأدوات والأشياء ، اللهم إلا بصفتها جزءاً من إكسسوار المكان ، ناسين أو جاهلين ان واحدة من هذه الأدوات أو الأشياء قد تكون هي البؤرة التي تحودب حولها كوكتيل المكان والزمان ( الزمكان ) .
أما زماني أنا ، فقد تحودب حول القصيبة … !! هل تعرفون القُصيبة ؟!.. أنا أحسد من لا يعرفها ، وأحسد من يعرفها أيضا ( حاسود باسود ) ، فقد ولدت والقصيبة ( تدلك ) جسدي وعشت والقصيبة تدلّكني ، وقد أموت على أنغام تدليلك القصيبة.
استدرك أولا ؛ فالقصيبة جهاز طويل جداً ينبت في المستنقعات أو على حواف جداول المياه ،وله استخدامات جمة وهو يختلف عن الخيزران في أنه مفرغ من الداخل واقل أذى ، لكنه، وعن تجربة، أكثر فعالية .
نحن الصغار كنا نستخدم القصيبة لأغراض أقل سوءاً ، إذ كنا نصنع منها طائرات ورقية بعد ان نلصقها بالعجين مع الخيطان وشوالات الاسمنت الفارغة ، ثم نربطها بخيوط طويلة ونصنع لها ذيلاً من الشرائط الزاهية ، وكانت نادراً ما تطير بشكل جيد . وإذا طارت كانت سرعان ما تتعلق بأسلاك الكهرباء وتعانقها بكل شغف رافضة النزول إلى البر ثانية ، وكان بعض الموسيقيين منا يصنع منها ( شبابّة ) تصدر اصواتاً ناشزة من تحت أصابعنا الوسخة . أما الأذكياء من الكبار فكانوا يستخدمونها لـ ( شبّ ) النار في الفحم الموشك على الانطفاء في الكانون في عملية تحايل سافر على الطبيعة، ولغايات الوقاية من التعرض للدخان الذي يسيّل دمع العيون والأنوف . ولا يُعدم الأمر من عجوز فقدت عصا غليونها الطويل إثر تعرقل أحد الأوغاد الصغار فيها أثناء عمليات الشيطنة ، فكانت تضع مكانها قصيبة إلى ان ( تدبر ) نفسها بخشبة مجوفة حقيقية .
أما أمي أطال الله عمرها وقصر قصيبتها ( بلا قافية ) فقد كانت تتأبط جهازها الفتاك كما يتأبط الأعرابي شبريته والجندي مسدسه والطالب كتبه والعزف قيثارته .. كانت امي جميع هؤلاء .
السبب المعلن وراء تأبط أمي لقصيبتها كان التعذر بكش الدجاج عن مدخل البيت ومعاقبة الديوك المتقاعسة عن أداء واجباتها الزوجية ( فياغرا بدائية ) . ولا يعدم الأمر أيضاً من استخدامات سليمة أخرى ، إذ كانت تستخدمها في تنفيش الصوف ، بعد ان تتغير الفرشة إلى حال الصلابة أثر تكرار ( الرطّ ) عليها من قبلنا نحن الأطفال نتيجة البرد والخوف وقلة الملابس .. كانت أمي (تفرطها ) وتحولها إلى هباء منثور كالعهن المنفوش ، وتعيد جدولتها ، لتخدم سنوات أخرى تحتنا.
ما علينا ؟؟!! لكنها كانت تستخدمها في تدليكنا ،وكنا نستحق ذلك أثر عبثنا بموجودات البيت والحوش وحنفية الماء الخارجية وما شابهها من تفاهات ، لكنها هذه المناطق كانت في ذات الوقت مدينة ملاهينا قبل ان نتعرف على مزايا ( مزبلة طنوس ) في الترفيه الجماعي لأطفال الحارة كافةً .
اقسم لكم ان أمي تجيد تقصي وتحديد الإحداثيات ومعرفة المحورين السيني والصادي ،مع أنها ( أمية ) تماماً ، إذ كنت اهرب إلى غرفة زوجة أبي التي لا تتحاكى مع جناب الوالدة ، لذلك كانت أمي تعمد إلى الوقوف في باب الغرفة و ( سمطي ) بالقصيبة أينما هربت ، حتى حينما كنت أحاول الاختباء في الزواية اليسرى للبيت ، اقسم ان أمي كانت تصيبني أينما شاءت دون ان تراني عن طريق حساب افتراضي للإحداثيات . وأدين حتى الآن بالفضل إلى أنفي الطويل الذي كان يتلقى صدمات الوجه ، إذ لولاه لكنت أعمى ،أو مقلوع العين ،على الأقل، جراء قصف القصيبية غير العشوائي .
طبعاً كانت أمي تستخدم القصيبة في ( الحمّام ) . حمامنا كان على طريقة ( اللقن ) وكنا نحاول التهرب منه نظراً للقسوة التي تفرك فيها أمي ( القشب ) عن أجسادنا ، لذلك فقد كانت القصيبة تشتغل، مما يضطرنا إلى العودة خاضعين إلى لقن المفاوضات ( ملف المياه ) .
الغريب ان الأسلحة تطورت ، وكان يمكن لأمي الحصول على قنابل يدوية أو كواتم صوت ، لكنهما ظلت متمسكة بالقصيبة حتى جاءها الكبر فبدلتها بالعكازة .
انظر الآن إلى تلك المرأة الجبارة بشفقة ، لكني لا اقترب كثيراً من ( عكازتها ) ، إذ ربما تكون قد ( طورتها ) لتتحول إلى قصيبة متى شاءت .
هذا هو عمري المشبوح على قصيبة وأتذكر دائماً بأني من ” قصيبة ” إلى ” قصيبة ” أعود .
وربّ قصيبة لك لم تستخدمها أمك ، ولكن ما حك ظهرك غير قصيبة أمك.
من كتابي( برج التيس)الصادر عام 1999