نور على نور

#نور_على_نور

د. #هاشم_غرايبه

فيما يتعلق بتحريم الخمر في الإسلام، يتخذ البعض وجود آيات قرآنية متباينة في الإلزام، حجة على أن في القرآن نسخا، لكننا لوتمعنا في مضمون الآيات التي ورد فيها ذكر الخمر، لوجدنا أنه لا تنقض آية حكم أخرى، بحيث يقال إنها نسخته، وإنما تعالج الموضوع من زاوية مختلفة.
1 – الآية الأولى التي نزلت في حكم تناول الخمر هي: “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا” [البقرة:219]، وأجابت على تساؤل بعض المؤمنين عن موقف الشرع من أمرين اعتاد عليهما الناس، لكنهم يعلمون أن فيهما مجانبة للسلوك السوي، وكثيرا ما يؤدي الانغماس فيهما الى مشكلات اجتماعية واقتصادية، فكانت الإجابة الإلهية تقرير حقيقة وإجابة دقيقة على السؤال، لكي تترك للعقل البشري محاكمة الأمر واستنتاج الحكم السليم، وتهيئة لتقبل التحريم القادم، فالإقلاع التام عن الأمرين ليس سهلا على النفوس التي اعتادتهما، ولا على الذين يجنون أرباحا من تصنيعهما والاستثمار فيهما، فكل الأمم القديمة توصلت مبكرا الى زراعة ما ينتج عصائر تصنع منها الخمور، ولا شك أنها تحقق نشوة لمتعاطيها بدليل قوله تعالى: “يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ . بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ” [الصافات:45-46]، وأصبح ذلك مصدر دخل لمنتجيها، بدليل قوله تعالى: “فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ” [يوسف:49]، لكن ذلك لا يعتبر إباحة، بدلالة بيان أن الإثم أعظم من النفع.
2 – كما جاء ذكر تصنيع الخمر باعتباره مصدر دخل: “وَمِن ثَمَرَٰتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلْأَعْنَٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا” [النحل:67]، وواضح من النص التمييز، فالرزق الحسن يكون باستعمال الثمرات لغير صنع الشراب المسكر، فالآية ليست حكما شرعيا، وإنما بيان واقع حال لاستعمالات البشر لها، في وجه حسن أو غير حسن.
3 – في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ” [النساء:43]، جاءت من ضمن اشتراطات أداء الصلاة، وهي حضور الذهن، فالسكر هو ذهاب مؤقت للعقل، ويحدث عادة جراء تناول الخمر، لكنه قد يحدث لأسباب كثيرة مثل قوله تعالى: “وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ” [الحج:2]، وقوله تعالى: “وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ” [ق:19].
لذلك فهو حكم متعلق بأداء الصلاة، ولا يعني أبدا أن السكر في غير الصلاة مباح.
4 – الآية: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” [المائدة:90]، جاء فيها التحريم صريحا بتحريم أمور أربعة، أحدها الخمر، وبين الله تعالى علة التحريم بأنه الرجس، أي العمل القبيح لأنه مدخل الى الشرور، وجمعها الله معا، لأنها ممارسات سلوكية ضارة بالنفس والمال والأسرة والمجتمع، فحرّمها الله لأنه تعالى حرّم كل ضار أو خبيث.
5 – الآية: “إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ” [المائدة:91]، وفي هذه الآية جاء تعليل التحريم للأمرين المذكورين في الآية الأولى (الخمر والميسر)، وذلك بعد أن تهيأ العقل المؤمن بعد التفكر في منافع ومضار الأمرين، وتيقن أن ضررهما أكبر من نفعهما، يبين الله تعالى لمن لم يتوصل بذاته الى فهم ذلك، أن الضرر الكبير الذي يقع بمتعاطيهما هو ثلاثة: إيقاع العداوة والبغضاء التي تؤدي الى التنازع والتقاتل، وإلهاء المؤمن عما يحقق له شخصيا أجرا كبيرا وللمجتمع نفعا وهو ذكر الله، ويُنسي المؤمن أهم واجباته اليومية وهي الصلاة أو يدفعه الإنغماس بهما لتأجيلها.
إن تشريعات الدين جاءت معززة لقيم الخير التي كانت موجودة مجتمعيا، كصلة الرحم وأكرام الضيف وإغاثة الملهوف.. الخ، وتخليص المجتمع من قيم الشر التي كانت سائدة مثل الغزو وقطع الطريق ووأد البنات والربا والبغاء ومعاقرة الخمر ..الخ، لكنها لم تأت بمصادمة مباشرة لما اعتادوه، بل تناولت كل أمر برفق، بعد أن جبّت كل ما يؤدي له.
مما تقدم عرضه، يتبين لنا أن كل آية من الآيات التي تناولت الخمر، عالجت زاوية معينة، لكي تقطع كل حجة لمن انغمسوا في تلك المنكرات، وتنجح عملية استئصال تلك الممارسة الذميمة.
لذا فليس هنالك نسخ لآية بآية أخرى، بل كلها مثبتة، وجاءت ضمن البرنامج المرسوم الذي وضعته الحكمة الإلهية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى