بكل رحابة فقر / يوسف غيشان

بكل رحابة فقر

أيام زمان، كان المعلمون يجبروننا على جلب (ورق شفّاف) لغايات التعلم على الرسم، لكن الحصول عليه كان يتطلب السطو على بنك، أو على الأقل، تلقي وابل من الصفعات والشلاليط قصيرة المدى من الأب والأم وباقي أفراد العائلة الكريمة حتى الجد التاسع. وغالبا، لا بل دائما، ما كنا نتلقى الصفعات والرفسات دون الحصول على ذلك الكائن الأسطوري؛ (الشلن) القادر على شراء الشفاف من مكتبات الواق واق.
ولأن جلد مؤخراتنا تشقق من الرفس والشلاليط العابرة للحارات، فقد ابتكرنا طريقة فعالة للحصول على الورق الشفاف – أو ما يقوم مقامه-مجانا، والحفاظ على كرامة مؤخراتنا في ذات الوقت؛ وذلك عن طريق (نقع) أوراق دفتر مدرسي عادي بالكاز … فتتحول صفحاته إلى ورق شفاف، يمكن بواسطته (شف) الرسومات والصور.
طبعا كانت العملية تنجح ويرضى الأستاذ، لكننا كنا نحظى بنكهة الكاز التي تدوم وتدوم وتدوم، لدرجة ان نقابة قمل الرأس قدمت احتجاجا إلى هيئة الأمم المتحدة، بدعوى أننا نستخدم الكيماوي المزدوج لإبادة أعضائها، القاطنين في جماجمنا بكل رحابة فقر.
من عواقب هذا الابتكار اللعين إنني (طلعت تيس) أصلي -غير مستنسخ-في الرسم، وأتعرض أحيانا إلى إساءات معنوية ونفسية جراء ذلك … تحديدا حينما كانت طفلتي تطلب ان ارسم لها أرنبا .. فيطلع معي على شكل ثلاجة، أو ان ارسم فراشة، فيخرج الرسم أقرب إلى بابور الكاز نمرة ثلاثة.
كبرنا وخسرنا العمر ونحن نتسكع على قارعة العوز…
كنا ننقع الورقة بالكاز ذات طفولة (مزغر)، لكننا اليوم ننقعها بالدمع والدم ونشيج الروح.
كبرنا وخسرنا العمر … حيث صارت الصفعات والشلاليط أكثر شدة وقسوة وحقدا!!!
كان الكبار آنذاك يضربوننا لأنهم لا يملكون الشلن لشراء الورق الشفاف… أي أنهم كانوا (يفشّون حرّة) فقرهم بنا ،وينتقمون منه على حساب أقفيتنا المدماة.
أما الآن فمن يضربوننا ليفشّوا حرة غناهم بنا…. وقد ينقعوننا بالكاز والغاز والأسيد منتهي الصلاحية، مقابل أن تتضخم ملايينهم وتزداد شفافية أجسادنا.
إنها الشفافية في أرقّ صورها يا جماعة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى