
المقال التالي نشر بتاريخ ودون معرفة سابقة بكاتب المقال.
رغبت بإعادة نشره اليوم،لأن فيه قصة جميلة، وفكرة سياسية معبّرة، يمكن للقارئ استنباطاها من بين السطور : الذئب الأبيض .. بين موسى باشا العدوان و د . فهد الفانك
سميح العجارمة.
سأحدثكم بحكاية أردنية عن الذئب الأبيض .. اثنان من كبار السن يمتلكان الخبرة و كانا رفقة عمر ، و دائماً يشتغلان بأرضيهما الواقعتين على جبلين متقابلين يفصلهما وادٍ عميق ، وكان هناك ذئب يتسكع أبيض اللون ، استطاع الرجلان ترويضه وسموه ( أبيض ) ، فعوداه أن يلبي ندائهم عندما ينادياه بصوتٍ عالٍ ( ياااا أبيض ) فيركض إليهما يطعمانه ويلاعبانه ويراضيانه وكأنه قط وديع وليس ذئباً متوحشاً !
وفي يوم من الأيام حدثت خصومة بين الرجلين فقطعا جميع العلاقات بينهما ، ولم يعد لديهما شيء مشترك إلا صديقهما المروض الذئب الأبيض ! وفي ظهيرة يوم صيف قائظ جلس الرجلان- للاستراحة – كلٌّ على حجر عند قمة الجبل في أرضه فكانا متقابلين يفصلهما الوادي العميق ، فنادى أحدهما ( ياااا أبيض) ، فجاء الذئب أبيض راكضاً ، وما أن وصل عنده حتى سمع الرجل الآخر على قمة الجبل المقابلة يناديه فركض إليه هابطاً الوادي الوعر وصاعداً سفح الجبل الصعب ليصل إلى مناديه ، أما الرجل الأول فانتظر إلى أن شاهد الذئب الأبيض يصل إلى رفيقه السابق وفوراً ناداه مرةً أخرى ( يااااا أبيض ) فقفل أبيض راجعاً بنفس الطريق المرهقة ، وفور وصوله إلى الرجل الأول ناداه مرة أخرى الرجل الثاني ، والذئب الأبيض حسب عادته عندما يسمع أحد الرجلين يناديه ركض راجعاً لقمة الجبل الأخرى .
وبقي الرجلان الاثنان يغايظان بعضهما وكل واحد فيهما ينتظر إلى أن يصل الذئب الأبيض المسكين إلى الآخر فيناديه ، وبقي هذا الوضع من ظهر ذلك اليوم الحار القائظ إلى ما بعد العصر ، والذئب لا يرتاح لحظة واحدة ليرضي الطرفين راكضاً ذهاباً وإياباً هابطاً سفحاً صاعداً سفحاً ، إلى أن أتت لحظة نادى أحد الرجلين الذئب ، فهبط الذئب إلى الوادي ليلبي النداء ولكن هذه المرة طال انتظار الرجل الذي ناداه ولم يصل أبيض إليه ، وعندما طال انتظارهما بعد أن نادياه كثيراً ولم يستجب لهما هبط كلاهما من جبله ليبحثا عنه ، وعندما وصلا إلى قاع الوادي وجدا الذئب الأبيض جثةً هامدة فقد مات كمداً بالسكتة القلبيةً ! سأعود لهذه القصة بعد قليل .
موسى باشا العدوان فريق متقاعد وسفير سابق له التقدير والاحترام الكبيران ، لا يختلف اثنان أن المؤسسة الأكثر نجاحاً في الأردن هي المؤسسة العسكرية فهي مصنع الرجولة ومصنع التضحية ومدرسة التفكير السليم والإدارة الناجحة ، وبما أن موسى باشا العدوان هو أبن هذه المؤسسة العظيمة ووصل فيها إلى أعلى المراتب فلا شك بأنه يتمتع بالصفات القيادية والإدارية المميزة ، والأهم تميزه بالقدرة على وزن الأمور وإبداء الرأي المناسب في القضايا العامة التي تؤثر على حياة الناس ، ونظلم الباشا إذا نظرنا إليه ككاتب بمعزل عن تاريخه المشرف وحجمه الكبير ، لذلك المنطق يقول أن الرجل يمتلك طروحات منطقية يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار ، ولا يستطيع أحد أن يقول أن لديه أجندة خاصة .
الدكتور فهد الفانك صاحب الرؤى الاقتصادية الثاقبة ، وكاتب العمود الصحفي الأقوى والأفضل في الأردن ، فأصبح كخبير اقتصادي مؤثر قوي على الرأي العام في الأردن بما يخص المجالات الاقتصادية والمالية ، فظاهرة الدكتور فهد الفانك ظاهرة صحية ، ولا يستطيع أحد أن ينكر أنه لم يأتِ بتاريخ الأردن كاتب عمود صحفي بحجم الدكتور الفانك بآرائه المبنية على منطق وعلم ولديه قدرة على استشراف المستقبل ؛ فتفاؤله وتشاؤمه دائماً لهما مبرراتهما وأدلتهما ، وأيضاً نظلم الدكتور إذا نظرنا له ككاتب وصحفي بمعزل عن علمه وتاريخه النظيف وحجمه الكبير ، لذلك أيضاً يجب أن تؤخذ آراؤه بعين الاعتبار ، ولا يستطيع أحد أن يتهم الرجل أن لديه أجندة خاصة .
في مقالة نشرها في سرايا موسى باشا العدوان بتاريخ 7 / 4 / 2010 بعنوان (هل التاريخ يكرر نفسه؟) يقول في إحدى فقراتها متحدثاً عن الأردنيين و خطيئة المديونية : ( وهذا الحال الذي يعيشونه هذه الأيام ، هو بلا شك أسوأ من تلك الأحوال التي مرت بهم في عقد الثمانينات ، إلا أنهم صابرون على جمر الفاقة ، مضحين من أجل وطنهم ومليكهم ، ولكن إلى أي مدى ستستمر التضحية ؟ فإذا كان الجواب بأن مديونية الدولة التي تسابق في تصاعدها صواريخ الفضاء ، هي السبب في سوء أحوالهم المادية ، فمن المؤكد أن لا ذنب لهم في صنعها وبهذا لا يتحملون عواقبها ).
أي أن موسى باشا العدوان يرى أن المواطن الأردني دافع الضرائب لا يجب أن يتحمل عواقب المديونية لأنه لا ذنب له بصنعها ولم يكن هذا المواطن صاحب القرار بوضع هذه المديونية الضخمة على كاهله وبالتالي فالمواطن غير معني بها ، ويحذر من انفجار الوضع بسبب شدة الضغط المتولد على المواطن نتيجة ضنك العيش الذي يعيشه .
في مقالة للدكتور فهد الفانك نشرها في جريدة الرأي بتاريخ 6 / 4 / 2010 بعنوان (المديونية.. من يدفع الثمن؟) يقول الدكتور في إحدى فقراتها : (هذه المديونية العامة – مثل أي مديونية ، يجب أن تسدد ، وبأي شكل ، من الطبيعي أن يتحمل دافع الضرائب العبء الأكبر عن طريق زيادة الضرائب. كما يتحمل موظفو الحكومة جانباً آخر عن طريق تجميد الرواتب.) أي أن الدكتور الفانك يرى أن المديونية هي مسؤولية المواطن دافع الضرائب فمن الطبيعي – برأيه – أن يتحمل الجزء الأكبر منها وذلك بزيادة الضرائب عليه ، وتجميد رواتب موظفي الحكومة (!) ، ويحذر من أنه إذا لم يحدث ذلك فستقع البلد في أزمة نتيجة ترحيل المشكلة إلى المستقبل ، وأظنه يقصد بالأزمة هو انهيار اقتصاد البلد وقد يؤدي إلى إفلاسه ، إذا لم يتم معالجة المديونية علاج جذري وحاسم وبدون تأجيل .
بين مدرسة موسى باشا العدوان ، مدرسة الحق العطوفة بالمواطن ، و مدرسة الدكتور فهد الفانك ، مدرسة المنطق القاسية على المواطن ، من فيهما الأصح ؟ وأي المدرستين يجب أن تتبع آرائها ؟ سأترك للقارىء النبيه أن يجيب على هذه الأسئلة ، واعتقد أنه على المواطن أن يختار إحدى المدرستين ويتمترس خلف آرائها (!) على أن لا يتصرف كالذئب الأبيض ذهاباً وإياباً بين الرأيين فعندها قد يصيبه ما أصاب ذلك الذئب المسكين ! لكن أرى أن ألفت الانتباه إلى مفارقة غريبة ؛ وهي أن رأي الرجل العسكري – الذي عادةً تغلب عليه الخشونة والذي عايش الصعوبات والأخطار- كان الأكثر حناناً ورأفةً بالمواطن من رأي الرجل المدني – الذي عادةً تغلب عليه النعومة – بسبب عمله بمكتب مكيف وبيت مرفه ودون مخاطر تذكر ! ففي اللحظة التي كنا نتوقع فيها القسوة من الأول جاءتنا من الثاني ، وكنا نتوقع النعومة والرأفة من الثاني جاءتنا من الأول ! لماذا؟ وهذا تساؤل آخر أتركه للقارىء الذكي .
أعود إلى قصة الذئب الأبيض والرجلين وأفاجؤكم بعدة أخطاء بها : الخطأ الأول لا يوجد ذئب أبيض في الأردن ؛ فالذئب الأبيض موجود فقط في المناطق القطبية ؛ أي أن من يتوقع بأن المواطن الأردني أبيض فهو مخطئ فالأردني طحنته الحياة الصعبة وما عاد أبيضاً وذلك حتى يستطيع الدفاع عن حقه بالحياة ، والخطأ الثاني أن الذئب يستحيل ترويضه ؛ وكذلك الأردني يستحيل ترويضه فيجب الحذر من حشره في الزاوية ، والخطأ الثالث أن الرجلين يمتلكان أرضهما على جبلين ، وهل بقي في الأردن أردني يمتلك أرضاً ؟! وهل بقي في الأردن جبال لم تزرع بالأشواك وبمباني شركات الأسكان يمكن أن يجلس على قمتها الرجلان؟!
sameeh_nws@yahoo.com