غثاء استراتيجي!

غثاء استراتيجي !
(على هامش الاستراتيجية العشرية للطاقة)
أ. د أحمد العجلوني
أكاديمي وخبير اقتصادي

تمثّل الاستراتيجية من وجهة نظر إدارية أسمى أنواع التخطيط كونها الخطة الأم التي تأتي منسجمة مع رؤية ورسالة المنظّمة التي تتبناها سواء أكانت وزارة أم شركة أم غيرها، حيث إنها تعبّر عن توجه طويل الأمد يؤثر على المنظمة من حيث هيكلها وعملياتها وبرامجها. كما أن الاستراتيجية تتطلب التزاماً طويل الأمد يتجاوز أحياناً كثيرة الإدارات المتعاقبة لكي تؤتي ثمارها على شكل تقدّم وازدهار للمنظّمة ينعكس بالمحصلة على ثروة المساهمين (المواطنين في حالة الاستراتيجيات الحكومية).
لقد أثار إعلان ما سمي بـ “الاستراتيجية الشاملة لقطاع الطاقة للأعوام (2020- 2030)” الشجون، ونكأ جروحاً عن حال الاستراتيجيات الحكومية في الأردن عموماً. ولن أناقش تفاصيل “أضغاث الأهداف” لاستراتيجية صاحبة المعالي ( ) لأنني لا أرى أنها تستحق المناقشة وذلك لأسباب كثيرة منها أنها ليست نابعة من رؤية اقتصادية وطنية عابرة للحكومات وعدم القناعة بصدق وواقعية كثير مما ورد فيها، فضلاً عن عدم ثقتي بمصداقية وجديّة من أطلقها. فهذه “الاستراتيجية” لا تعدو كونها غثاء سيل من الفشل لا يسمن خزينة الوطن ولا تغنيه من الجوع للطاقة، وما هي إلا مشهد ممل ضمن مسرحية الأحلام الوردية التي تبنيها هذه الحكومة على أنقاض واقع مرير؛ وتريدنا أن نلغي عقولنا ووعينا ونصدّقها كما منّينا النفوس بزبد متلاطم من الخطط والأهداف والأرقام والاستراتيجيات والوعود الكاذبة طوال عشرات السنين.
فمنذ نعومة أظفاري وطوال 40 عاماً وأنا أسمع بالخطط الاستراتيجية طويلة الأمد للحكومات، منذ أن كانت استراتيجية “أردن أخضر عام 2000” التي مر على انقضائها عشرون عاماً (وكانت النتيجة انتهاءنا بأردن أبعد ما يكون عن الاخضرار المنشود) وما تلاها – مما أدركت – من استراتيجيات اقتصادية لم تورث البلد إلا مزيداً من التراجع الاقتصادي والديون وإنهاك الشعب وقتل روح الأمل بالتغيير الإيجابي. فأغلب الاستراتيجيات والخطط واللجان والمجالس في بلدنا لا تعدو كونها مناسبات للاستعراض الإعلامي ما تلبث أن تفقد بريقها بعد انفضاض السامر، ثم ينتهي مفعولها بمغادرة المسؤول لكرسيّه، لأنها ليست نابعة من نيّة مخلصة للعمل لمصلحة الوطن بقدر ما هي مفصّلة على قياس المسؤول! ثم ما يلبث من يتناوب بعده على الكرسي للمسارعة بتفصيل استراتيجية وأهداف وإعادة هيكلة على مقاسه ومقاس محاسيبه!
ومن الأمثلة القائمة القاتمة التي تدعو إلى الكفر بتخطيط الحكومات واستراتيجياتها قيام وزارة الخارجية بوضع خطة استراتيجية للأعوام 2014-2018 للتعامل مع قضية المغتربين. هذه الاستراتيجية التي ما زالت تزيّن موقع وزارة الخارجية لم يسمع بها المغتربون أو يلمسوا أثرها لأنها بقيت حبراً على ورق! فمن الذي أمر بوضعها؟ وكم كلّفت؟ ولماذا لم تنفّذ؟ وهل تمت مساءلة من قصّر في تنفيذها؟! إن أسوأ أنواع الخطط تلك التي توضع ولا تطبّق، فلو أنها لم توضع من الأساس لكنا وفّرنا تكاليف إعدادها وإطلاقها والاحتفال بها. وإن حال “التخطيط الاستراتيجي الحكومي” لا يعدو أن يبارح حال هذا المثال الصارخ على الاستهتار بالشعب والنظر إلى همومه كأقل التفاصيل اهتماماً في نظر المسؤولين.
إن المتأمل في استراتيجية الطاقة التي أتت بعنوان جذّاب: (الاعتماد على الذات)! يخيّل إليه أنه يعيش مشهداً من مسرحية من مسرحيات الكوميديا السوداء، فبينما يستقر خازوق معاهدة الغاز المسروق مع العدو الصهيوني في أحشاء اقتصادنا وكرامتنا حاضراً ومستقبلاً، وبينما يتبادلون الأقداح على جثة كرامتنا، ها هم يدعوننا لأن نشاركهم حلماً -هم يوقنون بأنه مجرد أوهام- بأن يصبح الأردن مركزاً إقليمياً في سوق الطاقة في المنطقة التي تضم عمالقة الطاقة في العالم!! فأي استهتار هذا وأي استخفاف بعقولنا؟!
لقد أدى غياب الرقابة الرسمية والشعبية ورسوخ مؤسسة الفساد إلى أن يمر التقصير في هذه الاستراتيجيات وغيرها من جوانب الأداء برداً وسلاماً على المسؤولين، فلم نسمع يوماً أنه تم مراجعة وتقييم استراتيجية بعد انتهائها في أي قطاع، ولم نسمع بمحاسبة مسؤول عن المصائب التي نجمت عن استراتيجياته وخططه التي أورثت البلد المزيد من التقهقر. بل إن العكس هو ما يحصل، إذ أن نفس المسؤولين الكبار يعاد تدويرهم مرات عديدة ويكررون نفس المصائب في مراكز عملهم الجديدة. وحتى الرقابة النيابة الصورية؛ فإنها ما عادت تعكس صدى الألم والمعاناة والشقاء الذي يعيشه الأردنيون، لأن جلّ أعضاء هذا المجلس “الكومبارس” منشغل بصفقاته التجارية وتثبيت أعوانه في زوايا ومفاصل السلطة في البلد.
إن القلب يتفطر كمداً عندما نجد مستوى الإنجاز في الأردن في أدنى سلم التطور ومستوى معيشة الأردنيين في انحدار مستمر رغم كل الاستراتيجيات والخطط والقرارات التي لم تكن إلا غثاء كغثاء السيل، في الوقت الذي يبدع فيه أبناء الأردن بالمساهمة في بنيان الدول الشقيقة في شتى المجالات، وتوضع الثقة بالأردنيين لإنجاز المهام الصعبة والمهمة في تلك البلدان.
إن مشكلة الأردن ليست بندرة الأكفاء، بل بتغييب الأمناء وقهرهم بالتغريب أو الإهمال وتكسير مجاذيفهم مقابل دفع “السقّط” والفاشلين إلى المراكز الأمامية لاتخاذ القرار، ولن تتوقف مسيرة التراجع والانحدار إلا بعودة الأمور إلى نصابها بتحقيق العدالة في تبوأ المناصب ابتداء من أولى درجات السلّم الوظيفي إلى أعلى المراكز. عندها -وعندها- فقط ستبدأ الاستراتيجيات وغيرها من الخطط تؤتي أكلها الطيب ليعيش الأردن الحبيب وأبناؤه حاضراً كريماً ومستقبلاً مشرقاً.

حفظ الله الأردن من كل شر؛ وأدام ازدهاره

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى