أبخس عملة؛ التعميم بالجملة!

أبخس عملة؛ التعميم بالجملة!
نورس عدنان قطيش

يمرّ العالم بجائحة فتكت بالعباد وأنهكت الاقتصاد، تعمل الدول بطواقمها لاحتواء الأزمة، وتتعاون لإنقاذ البشرية من شرّ وباء كورونا.
هناك من في العالم اليوم، يواصل لتقديم الخدمة الأسمى في علاج المرضى، وهناك من يجتهد بالوقاية للحيلولة دون التفشّي، لكن؛ هناك من يزال يقبع في الظلام، ليهيء بيئة خصبة تزيد من انشطار الفيروس الأشدّ فتكاً بنا من كورونا.
“التعميم” من أشدّ الفيروسات فتكاً بنا بنو العرب، فهي تجمع كلّ الشرور في النفس، وتجعل الشخص كحامل الكير. بفضل التعميم وعواقبه المتلاحقة علينا من تخندق وتحزّب، صارت البلاد شرقاً وغرب، بعد أن كانت كلّها عرب. وبعد أن كانت بيننا الورود حلّت بيننا الحدود، وصار كل واحد بنفسه معدود. ظننت أن الحدود لن تُمحي الوجود، وجميع العرب بإخاءهم مشهود!
بين كل فينة وأخرى نشهد على مواقع “التباعد الإجتماعي” وابل من الشتائم؛ عرب ضد عرب، أغلبها تندرج تحت تهم التعميم. ثقافتنا العربيّة كما فيها الكثير من الإيجابيّة، فالتعميم ما فيها من السلبيّة، تلك الصفة لم تزل تطفو على السطح، رغم ما في الموروث من درر المكارم المكنون، إلا إنّ فيزيائية الأخلاقيات تحكم!
لم يزل البعض بغفلةٍ يمارس هواية العقاب الجماعي على المجتمعات استناداً للمقولة الشعبيّة: “الخير يخصّ والشر يعمّ”، رغم البراءة الربّانية في القرآن الكريم:” ولا تزر وازرة وزر أخرى”، منتشياً بالنقد ومشبعاً بالحقد، رغم مضيّ ١٤٠٠ سنة لتمام مكارم الأخلاق!
اليوم بفضل مواقع “التحاكم الاجتماعي”، أُتيح لكلّ من هبّ ودبّ من إنشاء محكمة علنيّة، يصدر فيها أهواء الأحكام؛ فمن حكم من (فرشته) ما ظلم! فالواقع أصبح يتصدره المنتشون، ولا قيمة فيه للعاقلين. ما أحوج الأزمات للعقلاء؛ يفترض بالمصابيح أن تنير الطريق المعتم على الكائنات الظلاميّة وتوقف نموّها، بدلاً من الإنكفاء وترك الحبل على الغارب.
لتستطيع الانتصار في حرب؛ وحّد جهودك وشتّت عدوّك، لكن، أرى فينا العكس، وكأننا مطية الزمان. نشهد خلافات تنقسم فينا يوماً يوم، ويتوحّد العدو علينا كلّ يوم. أهلكنا أنفسنا بمشاكل لا وجود لها، بعد أن كانت قضيّتنا وجود وليست حدود!
حرب الذباب الإلكتروني اليوم تشهد زخماً، وقيمتها السوقيّة تكاد تتخطى الذهب، فالعدو يكرّس جهده من هذا الجانب، بنشر سيل من وابل الإشاعات المغلّفة بالتعميم، ويتبعهم القابضين. معركتنا مع العدو الصهيوني لن تنتهي إلّا بالزوال، وأكبر معاضل العدو هي التطبيع الشعبي، بعد أن ضمن تطبيع الحكومات منذ زمن بعيد. الشعب العربي لم يزل غير متقبّل بوجود العدو في أرض عربيّة، رغم زحف البعض ممن يتصدّرون المشهد بفضل الخوارزميات المتواطئة مع التطبيع.
الهروب من الواقع والاختباء في ظلال الوهم ما يزيد من حالة الانكفاء، بدلاً من تعزيز الحالة الجمعيّة العربيّة ضدّ عدوّ واحد. صرنا أعداء بعضنا بفعل سلاح التعميم وخطره على المجتمعات، فالتعميم جعل من الأديان طوائف وجماعات، وجعل من الدم الواحد زمراً وعيّنات. في المقابل هناك عدو يزيد من خطره علينا بـ”لمّ الشتات” المزعوم؛ صارت حقيقة، بينما نحن منشغولون بـ”شتّ الشمل” المعلوم.
في الموروث الشعبي نقول:”البطن بستان”، دلالة على اختلاف الأخوة من نفس البطن، فما بالك بشتّى البطون؟! من يتصدر المشهد اليوم في مسألة التطبيع مع كيان العدو وتكريس جهده لبثّ الرسائل المبطّنة لإقناع العربيّ على الرضوخ للكيان والتسليم لأسطورته “الذي لا يهزم” التي ولّت منذ حرب الكرامة، لا يمثّل إلّا نفسه، ومثل هذا لن يثني من عزيمتنا بالوعي وعدم التعميم على بني جنسه أو دينه أو…إلخ.
الخطر يحيط بنا من كلّ حدب وصوب، ولدرءه؛ يجب تحصين المجتمعات بخطاب واعٍ يعزز من الحالة الجمعيّة التي تناهض التعميم، بالمقاربة وقبول الاختلاف، والسعي كوحدة واحدة لمواجهة التحدّيات وتفتيت الأزمات بحوار عقلاني يجمّع الأفكار والقناعات، والوقاية من شرّ الأنانيّة لتغليب المصلحة العامّة المقتضية بالحفاظ على السلامة وضمان الوجود ليومنا الموعود.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى