غاندي ونهرو / موسى العدوان

غاندي ونهرو . . كنموذج للقيادة السياسية الفذة . .!

عندما أحيل المارشال مونتغمري على التقاعد في خمسينات القرن الماضي، طاف حول العالم للالتقاء بالقيادات السياسية والعسكرية والتحدث إليها حول قضايا العالم. فكانت رحلته إلى الهند للاتقاء بالزعيم الهندي جواهر لال نهرو. فكتب عن ذلك اللقاء في كتابه ” الطريق إلى القيادة ” ما يلي وأقتبس :

” يجدر بنا في هذا المقام أن نتحدث عن غاندي قائد الحركة التحررية في الهند، والحديث عن غاندي أمر ضروري طالما أن نهرو واحد من تلاميذه. ولقد قرأت كثيرا عن غاندي ولكني أعتقد أن جميع ما كتب لم ينصفه الإنصاف الكامل. ومع أني لم أقابله إلا أنه يبدو لي كفرد غير عادي، يتمتع بقوة خارقة في التأثير على الناس واجتذابهم إليه، سواء أكانوا أفرادا قلائل أو مجموعات كبيرة، دون اللجوء إلى الأساليب الملتوية التي يعمد إليها الكثير من الزعماء السياسيين.

وقد أخبرني نهرو أنه كثيرا ما اختلف معه كما كان يختلف معه الآخرون، ولكن لم يكن ذلك ليؤثر على الروابط القوية التي تربطهم جميعا به. لقد كان بلا شك شخصية عجيبة تمكن من توحيد كلمة الملايين من الهنود، بطريقة لم يسبق إليها أحد من قبل. وكما قال نهرو لقد كانت لديه هذه الخاصية الغريبة التي وضعته في هذه المكانة بين الملايين، والتي تركت آثارها محفورة في قلوبهم على مر السنين.

مقالات ذات صلة

كانت طيبته وسماحة أخلاقه مضرب الأمثال، وكانت ملابسه عبارة عن قطعة من القماش يلفها حول وسطه، أما مسكنه فكان كوخا من الطوب اللبن . . . وكانت فلسفته ترتكز على أن يعيش مع الشعب يشعر بشعوره، ويحس بآلامه، ثم ينير له الطريق إلى الحرية والاستقلال. ولكن غاندي اغتيل في يناير 1948 على يد هندوسي متعصب، بعد أن حصلت الهند على استقلالها عام 1947. . . “.

امتد هذا الاتصال الوثيق من بعده بين نهرو وملايين الشعب المكافح، كما تبين القصة التالية التي يرويها مونتغمري :

” وصلت إلى نيو دلهي في ساعة مبكرة، وكان ذلك في أحد أيام شهر ديسمبر سنة 1959، وتقابلت مع الأسرة على مائدة الإفطار. وفي طريقي إلى الجناح المخصص لي لاحظت جمعا غفيرا من الناس، يجلسون على الأرض في صفوف منتظمة أمام المنزل. وعندما سألت نهرو تفسيرا لذلك أجابني بأن ما أراه هو منظر يتكرر كل يوم، إذ المعروف أن من يفد إلى دلهي من الفلاحين والطلبة وغيرهم، يستطيع أن يراه إذا لم يكن غائبا عن المدينة، فيخرج إليهم في الساعة 6,30 من صباح كل يوم.

وأضاف على طريقته : ( أنا كما ترى . . أحد معالم نيو دلهي ). فطلبت منه أن أصاحبه عندما يخرج للقاء الشعب. وقد كنت موفقا إذ طلبت منه ذلك، فقد أتيح لي أن أرقبه عن كثب وأعرف جانبا هاما من شخصيته، قلما يظهر في غير هذه الظروف. بدا هذا اللقاء بأن سار خلال الصفوف والتي كانت تجمع بين النساء والرجال والأطفال. وكان يتحدث إلى بعضهم هنا وهناك، بينما يقوم البعض الآخر بإحاطة عنقه بالزهور، والتي كان يلقي بها بدوره إلى الأطفال، الذين كانوا يتلقفونها بمزيد من الحماس. وقد قيل لي أن نهرو يقابل بهذه الصورة أينما ذهب في أنحاء الهند.

والاستماع إلى نهرو وهو يتحدث إلى الشعب أمام منزله كل صباح من الأمور الساحرة. ولما كنت قد تعلمت اللغة الهندستانية أثناء إقامتي في الهند عام 1908، فقد كنت أرقبه باهتمام بالغ. فكان يتحدث إليهم ببساطة، فيطرق الموضوعات العلمية مع الطلبة، ويتحدث عن الزراعة مع الفلاحين وهكذا. كانت مبادئ نهرو هي نفس مبادئ غاندي، فكرس حياته لدراسة المشاكل التي تواجه الملايين من الشعب الهندي فأحبه الجميع، ومنحوه ثقتهم ووقفوا وراءه كتلة واحدة.

كان نهرو يشعر بقوته كزعيم سياسي يقف الشعب من ورائه، كما كان يدرك مشاكل الزعامة ومصاعبها. وقد تحدث عن هذه المصاعب وأوضح لي بأن على القائد أن يمارس سلطاته بشجاعة، ولكن بالقدر الذي يتحمله الشعب، وإلا امتنع عن تنفيذ قراراته لكي لا تكون النتيجة الحتمية سقوط هذا القائد. ولذلك فلا بد له أن يمارس سلطاته ويتخذ قراراته بطريقة إقناع الشعب، مثلما كان يفعل غاندي، الذي أقنع الملايين باتباعه نتيجة لإخلاصه وأمانته “. انتهى الاقتباس.
* * *
التعليق :
هذا هو خادم الشعب الحقيقي الذي يحنو على أفراده ويعمل لصالحهم، فيبادلونه حبا بحب، لا يسرق قوتهم ولا يبيع وطنهم ومؤسساتهم الوطنية، ولا يسمح للفاسدين بسرقة مواردهم، ولا يخجل من لقائهم أو التحدث إليهم من وراء حجاب، بل يخاطبهم وجها، وجه يسمع شكاواهم ويتلمس احتياجاتهم، دون أن يحجز نفسه وراء بطانة فاسدة، تحرص فقط على مصالحها الخاصة، أو يستمع إلى إعلام مضلل ينقل صورة مشوهة عن أحوال الشعب.

فهل نطمح بفعل مشابه لما فعله غاندي ومن بعده نهرو، من قبل المسؤولين في بلادنا خلال الأيام القادمة ؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى