لوحكينا / ماجدة بني هاني

لوحكينا
من أين نبدأ الحكاية !؟

كان زمنا قديما سديميا ذاك الذي شهد الهزيمة ، أبناء تلك الحقبة يتذكرون كل شئ إلا خيباتهم ، فالخيبة توغل في النسيان لإنها مرفوضة من أعمق الوجدان ….
كل شئ قابل للتعويض في نظرهم حتى الحرب الخاسرة ، قد يكون بديلها قصة حب ملتهبة .
بهذه الروح خرج عمر من نكبة فلسطين هو وثلة من رفاق السلاح مغموروين بالهزيمة …عزاؤهم الوحيد أنهم نجوا بأرواحهم في حين قتل أخرون…..
ران الصمت تلك الليلة على أهل القرية. فقد راهنوا على أبنائهم بتحقيق النصر ، وأكاد أجزم أنهم تمنوا لو يتلقون أبناءهم في نعوش ،مستشهدين ، على أن يعودوا بأنباء الخسران .
اعتادت مضافة المختار أن تستقبل عمر وأصدقاءه في تعاليلهم حين يأتون وقت الإجازة ….فيكونون كأقمار الليل بهاء ، يتلذذون بالسمر إليهم واستماع قصص بطولاتهم المختلقة …يصدقونها ببساطة ، وثمة أمال عريضة يطوقها الأبناء …وحديث مهم وحماسي عن العدو وضرورة اقتلاعه وقطع شأفته …يا للأسف حين فقدت الأقمار بريقها ، وحين خلت المضافات من صخبها ، وحين سكتت لغة الكلام وتجرع الجميع ذلة الهزيمة بعد أن ضاعت معظم فلسطين …..
الجيل الذي ولدة ذاك العار، ظل موصوما ،مريضا ، مفصوما بين الفخر بأمجاد الأجداد وانتصاراتهم الحافلة في كتب التاريخ ،وبين واقع مر كشف ارتفاع مستوى الفشل والخذلان ، لقد خذل الجيل بأكمله وكان عليه أن يتجاوز صدمة الواقع الجديد ، ربما بالكذب على النفس ، أو اختزان الغضب ومحاولة التعويض ، أو ربما شئ من ذا وشئ من ذاك لكن المهم ما الذي أحرزه الجيل لمن بعده ؟ وكيف للمستقبل أن يكون …..
الساعة الثامنة مساء ،وقت نشرة الأخبار في تلفزيون عمان ، يحرص الشيخ عمر على متابعتها ، يرتفع تيار الهزائم يوما بعد يوم ، لا جديد من ستين عاما سوى توالي الهزائم والفجيعة في الأوطان والإنسان ، يحوقل كعادته ويصر كل يوم على التزام الموعد ..
في انتظار خروج المهدي ، فالدنيا كما يقول : آخر وقت !
أو في انتظار تحقيق معجزة تغير وجه التاريخ ….
.

على مسرح الذاكرة …..

ما زالت قصص الأمس حاضرة … مستحضرة ،أبطالها يتقافزون على مسرح الفكرة ،تلك أقدامها وهي تتراقص في البيت كالفراشة ، بوجهها المشرق الجميل ،وثغرها الباسم ، وعينيها اللتين تشبهان عيني قطة ،تشعان فطنة وتلتمعان شقاوة ،تصنع الفرحة ثم تبثها في الحاضرين ، إنها سلوة المحزون ، وحبيبة الروح والفؤاد ، رمتها يد القدر بسهم صائب ،ولم تلبث أن اختطفتها يد المنون…..
لم ينس عمر صورتها وهي تترنح تحت وطأة المرض العضال الذي لم يمهلها طويلا …..
ولم يترك لها فرصة للنجاة أو حتى وداع البنات والبنين.
ليس ينسى الطبيب تلك الليلة حيث جاء ليخبره أن المرض في مراحلة المتقدمة وأن النجاة تحتاج إلى معجزة !

مقالات ذات صلة

…فأخبر يا أخ عمر أبناءك والبنات عن حقيقة السرطان الذي أكل احشاءها…. وأن لا وقت ….فأولا وأخيرا سيعرفون …شئ من الرفق والتروي ليتجنبوا الصدمة فالأم غالية ، غالية جدا …نعم …وفقدها يحدث صدعا في القلب لا يزول .
كان فقد نعمة صفعة قاسية من القدر ،ليس لفلذاتها فقط ولكن على خدي عمر ….
عمر الذي فشل في منح أقل السعادة إليها ….
وتركها تعاني نزقه ونرجسيته وغروره أكثر من ثلاثين عامأ …عالجتها بصبرها واحتمالها ، وأفلحت في نقل أطفالها إلى بر الأمان ، وأن تشحنهم بالحب والخير والأمل والعطاء ،لمقبل الأيام ، بينما كانت تشكل لعمر ،عقدة الهزيمة والفشل .

إنه يبتلع للذكرى ويغص بالحنين !

كان الشيخ عمر يجلس على كرسيه الكهربائي بعدما ناءت بحملة ركبتاه ، أمس اجتمع الأبناء والأحفاد واحتفلوا بعيده الخامس والثمانين …وما بين صخب الأحبة وصمت القلب ندوب حزن تعتري الجسد الهزيل …وثمة صورة حبيبة لا تفارقه في جيب معطفه الداخلية ، اعتاد أن يخبئها ..
هي حبيبته وأم ولده….

والآن ها هو يصارع للحضور على حافة البحر ..يرقب النوارس، ويعد الموج ، ويبتلع الذكرى ويغص بالحنين ويلحن بعمق أنين الماضي ، وشوق للأحبة قاتل دفين .

نظر عمر لثورة البحر ..واستحضر ثورة الحبيبة ذات ليلة حين عاد ثملا وقد أمضى ليلته في حضن بغي !! اعتاد ان يتردد عليها ، كانت زوجته تنتظر عودته بكل بهائها وطهرها ونقائها ….شابة صغيرة تملكها وهي ذات الخمسة عشر ربيعا ، طفلة لم تكتمل بعد لديها ملامح الأنثى ، ذابت فيه وغرقت حبا ولجوءا ،تمثلت فيه حب الأب والأخ والزوج…في تلك الليلة أذاق عمر زوجته مرارة الخيانة ووجع الخيبة والخذلان .
لماذا ؟؟..لماذا ؟؟..كانت تصرخ :وصراخها يجلجل في المكان ،لماذااااا صرخة علقت في جدران البيت ،وما زالت بعد مرور السنين عالقه في ثنايا أذنيه و في تلافيف شعره و في أنحاء معطفه ….
ما قتل عمر حقا ،أنها لم تعش بعد ذلك طويلا ..بسبب المرض والقهر…

ومع كل موجة تدفقت أمام عينيه صور أطفاله اليتامى وقد تعلقوا به ، يجدون فيه رائحة الأم وبعضها ، ولكن هيهات لمن غرق في مستنقع الأنانية والرذيله أن يعود ….إنها الغيبوبة بكل تفاصيلها ….والأبناء تولاهم الله برعايته ،وكلأهم برحمته ،ربما ببركة دعاء الطاهرة التي صبرت على بلوتها ومرضها ، وانتهت آخر لحظاتها وهي تلهج إلى الإله أن يحفظ ذريتها من كل شر …..
والآن بعد مرور السنين ، وما مضى من تفاصيلها التم
حوله الأبناء والأحفاد…محتفلين ….ببقايا رجل خسر أعز ناسه ،وفقد ماله في اللذة والمفسدة ، ولكن خيطا رفيعا من ألفه جمعهم حوله ،إنه ثمرة بركات الدعوات وصدقها ، هي بقية من بر وإحسان ورثوها .
أخجلته رعايتهم ،وصفعته ضحكاتهم فهرب حيث يستنطق البحر ،ويشكو للمدى ، كم راودته فكرة إطلاق العنان لعربته كي تلقي به في حضن البحر الهائج ،عساها تبتلعه الأمواج وتتقاسمه الأسماك ،لكنه كان يضحك في سره ويتساءل ماذا تراه سيجد السمك في جلد رجل عجوز أكل الدهر عليه وشرب ،وفقد بعض سمعه وبصره ……ستلفظه ،كما لفظته السنين ….
ولم يزل يكمل هوائج فكره حتى هرع إليه بعض أحفاده يبحثون عن الجد المفقود ….
تعال معنا إلى البيت يا جدي ، فالبحر هاج ،وثمة عاصفة

الطريق ،والبرد شديد ….
تذكر عمر زوجته الحبيبة…حين نظر لعيني الحفيد…هو لا يحمل شكل عينيها وذات اللون فحسب ، بل يحمل ذات القلب ،وذات الحنان ….
فسبحان الله !

وللحكاية بقية ……

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى