
الآن على مساحة الكرة الأرضية الظلم شاع ، وانتشر على نطاق واسع كظلم القوي للضعيف، وظلم الدول الكاسرة المتوحشة، للشعوب التي تعيش على تراب ملئ بالخيرات، وما يكمن في باطن الأرض من ركاز كفيل بالقضاء على الفقر في العالم، والقضاء على البطالة والجهل والفساد الذي ينخر عقول وقلوب المفرغين من العقيدة الإسلامية والقيم الأخلاقية.
عند ميلاد سيدنا محمد عليه السلام، كان العدل قد اختفى وحل الظلم محل العدل الذي على أساسه تقوم، الحضارات، وبميزانه يتساوى الناس الذين كرمهم الله عز وجل بالأدامية وأناط بهم عمارة الأرض واستصلاحها، والسيطرة على ما ظهر على سطحها، وما خفي في باطنها من أجل سعادة الإنسان والرقي به وبذرة العلم.
وهذا لن يتحقق إلا بالعدل، والإنسان العادل لنفسه ولغيره وأن يكون قدوة للناس في سلوكه وأخلاقه وعلاقته العامة مع كل بني البشر لان الإنسان القدوة ضرورة ماسة للأمم والشعوب ، ويقتدي به ويكتسب الآخر منه مناقب الخير والجمال وحسن المعاشرة والقدوة الصالحة، يكتسب منه الناس النظام والانضباط في الحياة، وصدق في القول والفعل، بحيث يكون سلوكه وأقواله مطابق بعضها لبعض ، ولا يوجد انفصام في شخصية القدوة بين القول والفعل فالقدوة الصالحة هي شخصية متماسكة في كل علاقتها الخارجية مع الناس، كل الناس داخل الأسرة مع الأهل والأبناء والمعارف والمجتمع، والقدوة الصالحة تجعل الناس تسير على المنهج السليم الذي لا تتصادم فيه الأهواء مع الأطماع ، وبذلك يكون الإنسان سعيدا في الدنيا والآخرة.
من أدبيات الإسلام أن العدل أساس الملك.. ومن أدبيات فقهاء الإسلام أن الله يديم الدولة العادلة وان كانت كافرة، ويهلك الدولة المسلمة ان كانت ظالمة ؟!!!!
لذلك فان محمد صلى الله عليه وسلم كان يؤمن بالعدل المطلق، كان يؤمن أن الناس سواسية كأسنان المشط وكان يؤمن ويدعو الناس للإيمان بأنه لا فرق بين عربي وعجمي ، ولا أبيض وأسود إلا بالتقوى والعمل الصالح، وأن يتفق سلوك الإنسان مع قوله وفعله.
في قول لمحمد عليه السلام أنه بالعدل قامت السماوات والأرض، أي أن ميزانا دقيقا جعل الأرض والسماء وكل ما وجد فيها يسير وفق عدل ومنهج واضح ومحدد ولذلك كان الكون منظما هذا النظام ، حتى اللصوص يجب أن يكون العدل بينهم جليا ومنضبطا، لذلك جاء في كتب الأقدمين لو ان لصوصا تشارطوا فيما بينهم شرطا ، فلم يراعوا العدالة فيه لم ينتظم أمرهم.
وفي قول للشاعر أبي القسم ألشابي:
لا عدل إلا ان تعادلت القوى وتصادم الإرهاب بالارهام
ولأن العدل من مقاصد الشريعة الإسلامية، بارك محمد عليه السلام حلف الفضول الذي اتفق عليه شرفاء مكة في دار عبد الله بن جدعان عندما أراد أحد طواغيت قريش العاص بن وائل أن يأكل حق الزبيدي الذي اشترى منه بضاعة تم حبسها ورفض أن يدفع ثمنها لابن زبيد، ولجأ إلى أشراف من مكة فطلب منهم أن يأخذوا حقه من العاص بن وائل فرفضوا إعانة المظلوم، ووقفوا إلى جانب الظالم لكن عبد الله ابن جدعان دعا الشرفاء الأحرار، من ذوي المروءة والفتوة إلى وليمة في منزله، وتشاوروا في الأمر بينهم، فتعاهدوا بالله وتعاقدوا ليكونوا يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يدفع الظالم حق المظلوم بالغاً ما بلغ أقسموا ذلك حلف الفضول، ثم ساروا معا إلى العاص بن وائل فأرغموه صاغرا أن يعيد سلعة وبضاعة الزبيدي إليه.
لقد فرح محمد عليه الصلاة والسلام بهذا الحلف، ، فقال لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت، أجل يا رسول أنت لا ترضى وشريعة الإسلام لا ترضى أن يقوى ظالم على المظلوم بل الظالم يجب أن يطأطئ الرأس وينزع منه حق المظلوم عنوة.
واليكم نماذج من عدل محمد عليه السلام الذي جعل العدل ركيزة أساسية من ركائز الحكم الصالح.
فهذا أعرابي من البادية يقول بصوت جهوري اعدل يا محمد عندما سأله مزيد من العطاء، لو لم يكن الأعرابي مطمئنا إلى أن محمد عليه السلام ليس بينه بين الناس حرساً وجنوداً وجدرانا تمنع الناس من الالتقاء به، ويرتفع صوت الأعرابي وهو يجذبه من كتفيه بشدة، يقول اعدل يا محمد!! يا له من موقف لم يحدث مثله في تاريخ الإنسانية..
وهذا رجل آخر يقترب من محمد عليه السلام خائفا وجلا ، ترتعد فرائسه من هيبة الرسول الذي ربت على كتفه وقال له برقة وعذوبة وتواضع جم، هون عليك يا رجل فانا أمي كانت تأكل القديد في مكة!!! موقف إنساني رائع لا تكبر فيه ولا عجرفة، كما تشاهد الآن من الذين يأكلون السحت بالإثم والعدوان من أموال الفقراء والمساكين ومن أموال الأيتام ..
كان محمد عليه السلام يكره أن يتميز عن أصحابه، ذات مرة في سفره مع أصحابه، أرادوا أن يطبخوا طعاما ، فوزعوا الأدوار بينهم، فقال محمد عليه السلام وعلي جمع الحطب، فقال أصحابه نحن نكفيك ذلك يا رسول الله رفض أن يكون مميزاً ، بل هو واحد من الناس من الجمهور يجري عليه ما يجري على الآخرين، يا لها من روعة رسول يرفض أن يكرمه أصحابه وأصر ان يكون مكلفا كواحد منهم بلا تميز، لأن هذا العدل الذي قامت عليه السموات والأرض.
فها هو نبي الله عز وجل يقول ،سيكون بعدي أمراء يظلمون ويكذبون، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني، ولا أنا منه ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم على ظلمهم فهو مني وآنا منه، ما أكثر هؤلاء يا رسول الله في عالم العرب والمسلمين يظلمون الأحرار ويقتلونهم، يدقون الرقاب ويحرقون الحجر والبشر.
محمد عليه السلام جعل العدل أساسا من أسس التطور والتقدم والحياة الحرة الكريمة ويقول «من جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليقتص منه» ؟! عليك السلام يا رسول الله بنهجك تنهض الأمم ويتقدس الخير والحب والجمال وتتوحد القلوب على كلمة سواء.