
بين الناصر و زوزو
وائل مكاحلة
.
في مشهد خلدته السينما المصرية.. قال دوق النمسا لـ”ريتشارد قلب الأسد” يثنيه عن الاستحواذ على قيادة جموع الصليبيين والاستغناء عن خبرات فرنسا: “جبهتنا ضعفت بعد أن أصبحنا قلائل”، قالها بشكل مضحك يفخم من حرفي اللام في كلمة “قلائل”، فأجابه ريتشارد الثمل بنفس الطريقة قائلا: “قلائل؟!.. جيوش اثنتي عشرة دولة أوروبية بأجمعها.. تسميها قلائل؟!”..
كان هذا في فيلم “الناصر صلاح الدين” الذي اجتمع عليه مثقفو الستينات كي يخرجوه بصورة تقارب صورة “جمال عبد الناصر” في عيونهم، اللماحون منكم أدركوا جيدا أن المقصود بالعمل هو “جمال عبد الناصر” لا “الناصر صلاح الدين”، خصوصا مع المنعطفات التاريخية الخطيرة التي كانت تمر بها المنطقة الملتهبة بعد العدوان الثلاثي على مصر 56، والتي أدت إلى نكسة 67 بكل ما فيها من مآسٍ حمل العرب جميعا نتائجها بين خاسر للأرض وخاسر للجيوش والمال، العمل الفني جمع كثيرا من الأسماء اللامعة كيوسف شاهين ونجيب محفوظ ويوسف السباعي وعبد الرحمن الشرقاوي، تحت راية شركة “الفيلم العربي” التي أرادت إهداء الفيلم للزعيم الأوحد، ذات الزعيم الذي حمل عهده الخيبات والهزائم التي أدت إلى خسارة حرب 73 أيضا في الاسماعيلية عبر ثغرة “الدفرسوار” في عهد خلفه السادات، في الحقيقة أن هناك أجيالا عاصرت الحرب.. وأجيالا عاصرت من عاصروا الحرب، لا تزال تذكر نصر 73 ولا يعرفون شيئا عن ثغرة “الدفرسوار” التي أدت إلى انخفاض مستوى الصوت العربي على طاولة المفاوضات.. ورضوخه لشروط العدو في “كامب ديفيد”، في كل معاهدات السلام التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي وما زالت تتوالى حتى يومنا هذا..
فيلم “الناصر صلاح الدين” جاء مصاحبا لتطلعات مثقفي الستينيات الوجوديين الذين تحولوا بقدرة قادر إلى يساريين، فقط ليواكبو اتجاه الزعيم إلى المعسكر السوفييتي بعد يأسه من وعود البنك الدولي لتمويل مشروع السد العالي في أسوان، ظل هذا التلون سائدا في انتظار ساعة الفرج في 67 والتي عادت بالخيبة على مثقفي الستينيات وجموع جماهيرهم، والمراقبون لتلك الحقبة سيدركون مقدار التغير الكوزموبوليتاني على ساحة الأدب بين فيلم “الناصر صلاح الدين” وفيلم “خلي بالك من زوزو”، حيث يعبّر الفيلمان – بحسب العارفين – عن قوة الصدمة التي صاحبت هزيمة مروعة لم يذكرها الزعيم الأوحد يوما ضمن خطبه الحماسية.. ولم يحسب لها حسابا..!
بالأمس سألني صديق عن توقعاتي لمصير مذكرة طرح الثقة التي ينوي النواب التصويت عليها “غدا”، سهمت بنظري بعيدا وقلت ما فتح الله علي به: “إما أن يكون المجلس ناصرا للشعب أو أن زوزو ستعود لتتصدر المشهد” !!.. نظر إليّ بغباء شأن من لم يفهم ما أقول، ثم قال مستدركا: “أعتقد أن طرح الثقة سينجح هذه المرة.. الرافضون لهذا بين النواب ليسوا بقلائل.. نواب عشر محافظات تعاني ما تعانيه من الحكومة ليسوا بقلائل” !!
بصرف النظر عن أني أفضل “حمدي غيث” في طريقة نطق الكلمات سالفة الذكر، لكني شعرت ببعض الرثاء لهذا الصديق.. فمثله كثيرون!!.. كثيرون ما زال الأمل يحدوهم ويداعب أحلامهم البريئة بغد أفضل تكون فيه الحال أيسر مما هي عليه الآن، كثيرون ما زالوا يظنون أن هؤلاء سيقدمون مصالح الناس على مصالحهم هم وأهليهم يوما ما، كثيرون ما زالوا يحلمون بانتصار هزيل يغير حكومة لا ترى مقدرات للوطن غير قوت الشعب.. بحكومة تخاف الله في الشعب قليلا..
واليوم بعد حساب نتائج التصويت (48 حجب مقابل 67 ثقة) عادت ذكريات هذا الوطن المنكوب لتلح على ذاكرتي المتعبة بين نكبة ونكسة، عادت ذكريات حرب الأيام الست التي كانت كخيط رقيق بالٍ يفصل بين هزيمة “الناصر” وانتصار “زوزو”..
هذا.. وما زلنا في انتظار نزول التترات حتى الآن…!!
_____________________________
وائل مكاحله