
دكان أيام زمان
زمان .. قبل أن تضيق علينا هذه المدن . و قبل أن تزدحم شوارعها التي كانت ملاعب
لطفولتنا .. و قبل أن تتلاشى ساحاتها و حاراتها ، و تستطيل في السماء ، بنايات
و ابراجا .. و مجمعات تجارية
قبل أن تحكم الخناق على الطفولة التي
تهوى الركض في الساحات خلف الفراشات ، أو حول ” طابة” قدت من ثوب أو صنعت من زوج جوارب .. متعة و حيلة على الفقر ..
فهيهات هيهات من يشتري كرة ،، تستحق اسم ” فطبول” !
زمان .. و قبل أن يدهشنا ” السوبرماركت ”
بهذا الاسم الغريب .. و هذا البذخ بعرض البضاعة .. تحت يد المشترين .. مصفوفة كأنما هي مكتبة .. و لكن تغريك بجمال
مغلفاتها و الحيلة في عرضها ..
زمان و قبل مرحلة التخمة و التحول نحو
الاستهلاك ، و قبل أن تتوحش شهواتنا ، بنهم لم يعرفه الآباء و لا الأجداد .. و قبل ظهور
” المولات ” حيث يحمل الانسان جشعه بعربات .. يملأها بمئات الأصناف من المشتريات و المأكولات . منها المجمد .. و المبرد .. و المقدد . . و الملفوف .. و المعلب .. الحامض و الحلو .. و الحار
مما يلزم و يسد جوعا .. و مما لا يلزم ..
و لكن للظهور و المباهاة .. و لدلال الاولاد ..
زمان كان في كل حارة دكان .. تلبي حاجات الناس الضرورية .. من سمن و زيت
و شاي و سكر .. و علب السمك السردين ..
التي حظيت برعاية رئيس الوزراء .. شفقة على زبائنها و آكليها من الطبقة الثالثة او الأخيرة من الشعب ..
كانت الدكان متواضعة في حجمها و بضاعتها .. مرتبانات من الحلو ” المطعم” و الراحة و الحلاوة و الدبس و اللبن القطيع ..
و أكوام من الزبدة .. و شلو من العجوة ..
و للصغار . بالونات و سحبة يانصيب .. و شرشور من ملبس حامض / حلو
و للهدايا أطقم كاسات .. او مجمع شوكالاته
رخيصة .. مغروسة في لوح بولسترين ..
يتم إهداؤها في حالات الولادة و الطهور و النجاح .. و أحيانا الزواج ..
الدكنجي .. غالبا كبير في السن . . و هو دليل الحارة .. و العالم بأسرارها و أخبارها
و هو الذي يعرف العناوين .. تودع لديه الرسائل .. و لا ينافسه في هذه المعرفة و هذا الفضول الا الحلاق .. الذي يمضي وقته
يطقطق بالمقص .. و لسانه اذاعة .. عن اخبار الزواج و الطلاق .. و الساكن الجديد و الراحل من الحارة . . و من مزعل زوجته
و من متخاصم مع حماته ..
زمان كانت الدكان منتدى و ناديا .. اليها
و فيها يجتمع مجموعة الأصحاب .. بعد فراغهم من العمل .. و ” يديونوا” الختيارية
ع باب الدكان .. و يبحثوا أمورهم و أمور
خلق الله .. من قضية الشرق الاوسط .. و صواريخ القاهر و الظافر .. و قرب العود للبلاد .. و مشروع يارنغ .. و سعر القمح
و سعر تنكة الزيت .. و أخبار الأرض و المطر و الشجر و الحجر .. و خذ سوالف .. و لف
دخان الهيشي .. كانت الدكان ثقافة .. و المجالس مدارس ..
كان للدكنجي دفتر للديون .. تقرأ فيه اسراف الناس و تنعمهم في ذلك الزمان ..
يا حسرة .. افتح الدفتر و اقرأ بالخط
الهيروغليفي ..
– ثلث بيضات و كيس ملح بيد حموده ابن ابو علي ..
– ليفة حمام و صابونة بيد عيوشة
– علبة سمنة و علبة دبس بندورة بيد عودة
– أصبع حلاوة و علبتين سردين… .
هذه كانت ديون الناس .. و يمكن تجد :
– نص نيرة نقدي لعليوة المحمود
كان زمان كانت شاهدة على حياة اجتماعية و اقتصادية .. كان ” السحب” من الدكان بطرا اذا زاد عن حاجات الاسرة الضرورية .
.. أما اليوم و بعد أن انتفخت جيوب البعض بالمال .. أصبحنا نشتري بالألوف و المئات .. حتى امتلأت مدننا بأطنان النفايات
.. و غابت الدكان .. و حكايا أيام زمان ..
.. و غابت القناعة منا .. و اب فينا الإنسان .