عندما تبكي الفرسان… ذبحوا الأردن !!

عندما تبكي الفرسان…
ذبحوا الأردن !!
جمال الدويري

خمسون عاما مضت، وما زالت هذه الجملة ترنّ في أُذني، ويتردد صداها في عمق الذاكرة الوجدانية، وقد كنت حينها يافعا يستقبل العمر بفجر ربيعه، عندما دخلت الى ابي، رحمة الله عليه، في ديوانه، وقد سمعت جلبة وحشرجة، لأجد الشيخ الفاضل يستلقي على ظهره، وقد اخفى وجهه بذراعيه، وصوت المذياع مرتفعا فوق العادة، حالة غريبة لم اعهدها في بيتنا ابدا.
تنبه الوالد لدخولي، ونظر اليّ بذهول بعينين حمراوين، وقبل ان اسأله عن الخطْب، عاجلني وهو يبكي، بل ينتحب وقد بلل الدمع وجنتيه: ذبحوا الأردن!
صُعقت، وتسمّرت في المكان، أدركت مجازية المصطلح دون الوقوف على تفاصيل رسالته، ولكنني تيقنت ان أمرا جللا قد حدث، وأن مصيبة اكبر من الموت حتى، قد وقعت، وقبل ان استوضح، تابع رحمه الله: ذبحوا وصفي يابه.
أُسقط في يديّ، وهويت في ثقب اسود مجهول، سيما وأن الوالد رحمه الله، قد شاركنا وأشركنا مبكرا، بالفكر والسياسة وعميق الوطنية الفكرية والعملية، كجزء من تربيته لنا، وتأدية لأمانة الوطن في اعناقنا، وكنا نمر للتو بأزمة وطن ومواطنة غير مسبوقة، وكنت قبل فترة وجيزة، جزءا من آلة وآلية شعبية، حركها والدي في البلدة الأردنية الحرة، chتم، لإمداد القطاعات العسكرية الرابضة في الجوار، بالمؤن وما تيسر للفلاحين من منتوجات الأرض الطيبة، بعد ان قطع الخراب وأهله طريق امداد هذا الجيش الباسل، لفترة وجيزة.
استشهد دولة الرئيس الفريد الذي يشبهنا، الذي لم يخلو بيتنا من اسمه وسيرته وصورته وأخباره ونبل وطنيته ونظافة يده، وعلى لسان الوالد الذي نثق بكلمته وتقييمه للوضع والإنسان، وهو العارف شخصيا بوصفي عن قرب وخبرة.
هي مرة وحيدة يتيمة، ارى الفارس الصارم باكيا، بل منتحبا كما اسلفت، وبعمق الجرح الغائر في الروح والضمير، كانت غزارة الدمع وحرارته وصدقه، ولم يخجل ولم يداري ولم يحترس، هذا الأسد الجريح، او أظنه لم يستطع ربما، رغم شخصيته القوية التي طالما وصفها البعض بالقسوة.
اليوم، وبعد خمسة عقود على الكارثة، وبعد ما وصل البرامكة بالأردن العظيم، تركة الرجال الأفذاذ، وأمانة السلف الصالح والشهداء الأبرار، الى ما هو عليه الآن، أُدرك بحق، ما معنى ان تبكي الرجال والفرسان، وتظهر قوة الضعف الإنساني، والخوف على الوطن.
اليوم…ادرك فعلا عمق جملة ابي المأثورة ومعناها المجازي البليغ: ذبحوا الأردن…
حمى الله الأردن العظيم، ورحم والدي الشيخ، وما زلنا نبكيك يا وصفي وننتظرك، عليك رحمة الله ورضوانه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى