المعروف لا يضيع أبداً / بقلم ماجد دودين

المعروف لا يضيع أبداً
قصة واقعية حدثت معي قبل 30 عاماً تقريباً
صعدت حافلة مؤسسة النقل العام في العاصمة عمّان … وأنا أشعر بالسعادة والفرح الغامر حاملاً معي بضع نسخ من كتابي الجديــــد بعنوان ( الكنز العظيم) وهو الكتاب الذي كان قد صدر للتو عن دار الرسالة للطباعة والنشر … وجلس بجواري في الباص شاب في ريعان الشباب … قرأت الطيبة والخير في قسمات وجهه الوسيم المشعّ بالنور… سلّمت عليه وأهديته نسخة من الكتاب وبعد دقائق معدودة نزلت من الحافلة وأنا لا أعرفه ولا أعرف اسمه ولا أين يعمل فقد كانت المسافة قصيرة ولم تسنح الفرصة لي للتعرّف عليه … ودارت الأيام والشهور والأعوام دورتها التي لا تتوقّف إلى أن يشاء الله… وبعد سنوات من العمل تم تخصيص سيارة خاصّة لي وكانت والدتي – رحمها الله رحمة واسعة – والتي لم تكن قد رحلت عن هذا العالم تعاني من آلام في مفاصل الركبتين… – حيث أنجبت 11 من البنين والبنات – معظمهم أنجبتهم وولدتهم وربّتهم بمشقة … يوم كانت ظروف الحياة قاسية ولم يكن هناك غسالات ولا نشافات كهربائية لا عادية ولا أوتوماتيكيّة … فاصطحبتها واثنين من أشقائي إلى منتجع صحي سياحي للمياه المعدنية الكبريتيّة الطبيعيّة الحارة …أملا في تخفيف آلامها ومعاناتها… وعند بوابة الدخول توقفت لدفع رسوم الدخول … فتحت نافذة السيارة وسلّمت على الموظف المسؤول عن تحصيل الرسوم … وقلت له: الهدف من الزيارة يخصّ والدتي فقط … فهل تسمح بأن أدفع الرسوم عنها فقط ؟ نظر إليّ الموظّف بإمعان ودهشة وسألني: ألست ماجد دودين؟ قلت: نعم. قال: لن تدفع أي رسوم … فسألته باستهجان: هل تعرفني يا أخي؟ قال: نعم … أعرفك جيّدا وإنْ كنت لا تذكرني ولا تعرفني … قبل سنوات التقينا في حافلة النقل العام وأهديتني نسخة من كتابك ( الكنز العظيم) قرأته وأعجبني … وقرأه والدي … وقال لي: أوصيك بماجد دودين خيراً … وها هي إرادة الله تجمعني بك بعد كل هذه السنوات كيْ أحاول رد الجميل … وتنفيذ وصية والدي.
فتح بوابة الدخول: وقال لي تفضّل وأصرّ على أن لا أدفع رسوم العبور … وعند وصولي إلى مكتب التحصيل لشراء تذكرة الدخول لوالدتي إلى بركة السباحة المخصّصة للنساء … قال لي المحاسب: أنت ماجد ؟ قلت: نعم … قال: اتصل بي زميلي من البوابة الرئيسية وطلب مني أن أعطي والدتك وأعطيك أنت وأشقاءك تذاكر مجانيّة للدخول جميعاً … كلّ واحد إلى البركة المخصصة له… حاولت أن أدفع لكنه رفض رفضاً قاطعاً…
وانتهت الزيارة وأنا أقول سبحان الله … سبحان من لا يضيع أجر من أحسن عملا … ولكن هل انتهت القصّة هنا … الجواب: كلا … للقصة بقيّة عجيبة…
مرّت سنوات وانتقلت أسرتي إلى سكنٍ جديد في مدينة جديدة في الوطن الحبيب… واحتاج والدي في ذلك الوقت ولم يكن قد رحل عن الدنيا – رحمه الله رحمة واسعة – احتاج إلى تجديد جواز سفره … ذهب إلى دائرة الأحوال المدنية … وكان في عجلة من أمره … سلّم على الموظف الواقف خلف مكتب استقبال المراجعين … وسلّمه الجواز القديم لتجديده … فتح الموظف الجواز القديم وقــــرأ الاسم: ( سليمان دودين) ثم سأل والدي: هل تعرف ماجد دودين؟ أجابه والدي: ماجد ابني هل تعرفه يا بنيّ؟!!… قال له الموظف: نعم …اجلس “يا حجي” يا والدي على ذلك المقعد وسأجدد لك الجواز سريعاً … ابنك “ماجد” قبل سنوات عديدة أهداني كتابا من تأليفه … (( سبحان الله )) هو هو نفسه بشحمه ولحمه… نفس الموظف جزاه الله خيراً … كان قد انتقل من عمله في وزارة السياحة للعمل في وزارة الداخلية/ دائرة الأحوال المدنيّة … وكلما ذهب أحد من إخوتي وأخواتي الــــ(11) من آل دودين إلى تلك الدائرة لاستصدار جواز سفر أو شهادة ميلاد أو أو هوية شخصية انبرى ذلك الموظّف الطيب الشهم الأصيل – جزاه الله خيرا – للمساعدة وتيسير المهمة … وتكرّرت قصة هديّة ( الكنز العظيم) على مدى يزيد عن 30 عاماً… وهي قصة مرشّحة للاستمرار لسنوات قادمة… وأسأل الله سبحانه أن يرزق ذلك الشاب / الرجل الشهم – جزاه الله خيراً – طول العمر، وحُسْن العمل والعمل الحسن، وخير العمل وعمل الخير…
حقا … عمل الخير لا يضيع ولو كان بسيطا … ولو كان قليلا … حتى لو كان مثقال ذرّة لا يضيع في الدنيا ولا يضيع في الآخرة … (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).
فلا تقولوا: ( اعمل معروفاً وألقه في البحر ) بل قولوا: اصنع معروفا وادّخره في حساب التوفير الجاري في بنك الأجر …

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى