قنوة أبو هوّاش

قنوة أبو هوّاش

د.جودت سرسك
أحاول أن أكتب بلغة #الكتب_المدرسية في سابق عهدها ليعود بي الحنين إلى هويتنا وتراثنا حين كنا نقرأ ونعشق حروف لغتنا ونشم رائحة البيت ونحن على مقاعدنا الخشبية المتراصة، صباح الخير يا أمي صباح الخير يا أبت حفظت اليوم أغنية وذاب السحر في شفتي. كان معلّم الصفّ مرتب الهندام مفتول الشوارب مغبرّ الأصابع بألواح #الطباشير يعرف أسماءنا وعائلاتنا وأرزاقنا وأحوالنا ويمرّ عن الطالب يتيم الأب وهو يقرأ صباح الخير يا أبت فتبكي عينه قبل عين الطالب.
كنا نشدو بصوتٍ عالٍ أغنية ماما ضياء في كورال جماعي أشبه بحلقات القرآن أو غناء الكنائس الصادق، ماما ماما يا أنغاما تملأ قلبي بندى الحب أنت نشيدي عيدك عيدي أفتح عيني عند الفجر فأرى ماما تمسح شعري.
كانت أمهاتنا يستيقظن فجراً ليمتلأ البيت برائحة سندويشات الزيت والزعتر وكلّ تغني على ليلاها تترنم بآيات القرآن أو ترانيم القرى والبادية وعيونها ترقب تاج بيتها وهو يحنو عليها بنظراته قبل أن يحنو على شعرات لحيته التي اعتاد أن يحلقها كلّ صباح بعد أن ينهك جلدة وجهه بفرشاة #الصابون ليتجنب الجروح والخدوش.
وفي ناحية أخرى من الوطن كانت أم هواش التي كنا نتساءل عن طقوسها من طالب نجيب انتقل مع أبيه العسكري إلى عمان من مدينة السلط، كان يرمقنا بنظرات غريبة حين نردد ماما ماما وسرعان ما يفرط عقده ضحكا بعد نهاية الدرس.
كان صداح الطالب الجديد ينهال علينا بكلمات محفوظة في متحف الكتاب المدرسي في مدينة السلط وكنا نكررها كأنها لغة أجنبية صعبة التراكيب، أقظب ودشّر ومطنقر ولاحُه وشاحه والحالة خرتانة والولد مدغدِر أو متورّم.
إن صداح من مدينة تنسب إلى القائد اليوناني سالتوس وهي مدرجة على لائحة التراث العالمي وتعني مدينة السلط حجر الصوان ولها ضواحٍ وخربٌ كثيرة ومنها خربة زي التي ينتسب لها صداح الذي كان يشارك في الإذاعة المدرسية كل صباح ويتغنى بالسلط كأنها من كوكب آخر.
تحوّلت أنظار المدرسة جمعاء إلى صداح القادم من السلط بكل تراثه في يوم الاستقلال الوطني حيث أحضر معه عصا لها رأس تسمّى القنوة وقد وشّح كتفيه بشماغٍ أحمر يشبه شماغ الملك الراحل الحسين رحمه الله الذي كنا نراه على التلفاز في حين كان أبوه أبو هوّاش يعلق صورته على جدار غرفة البيت الرئيسة.
في ربوع وطني تجد الحلم والأمل والعروبة والكرامة والتآخي وتجد الكبار والربابة والبندقية والمسلم والمسيحي وابن المخيم والبادية والمدينة والعربي والبخاري.
كان هوّاش رجلا من أبناء ذلك الوطن حمله أربعون رجلا ذات مظاهرة واحتجاج من قرى السلط الشامخة بالعروبة من أم جوزة وأم نجاصة وأم رميمين وزي وأم خروبة والبطين والنبي يوشع، رفع أبو هوّاش قنوته وراح يصرخ والله لأكسرن رأس أمريكا وينها أميركا ورجُوني إياها، وقد انتفخت أوداجه وعروقه غيرة ودماً وعروبة على فلسطين المحتلة.
تخرجنا من المدارس وذهب كل يشقّ طريقه وتوزع الوطن وأبناؤه وذهب صدّاح في دورة عسكرية إلى أميركا التي كان يهتف أبو هوّاش أخوه لإسقاطها ورأى صدّاح كيف تصنّع أميركا دبابة عسكرية بفوهة تصل قذائفها إلى قارة أخرى وتدكّ كتيبة كاملة بقذيفة واحدة، رآها تُصنّع أمام ناظريه وتُركّب في ثلاثين دقيقة.
كان صدّاح يعلم بقنوة أخيه أبو هوّاش الذي تُوفي بذبحة صدرية في موسم حصاد الزيتون الذي علم أنه لن يكفي حاجات بيته لذلك العام والديون المتراكمة على كتفه.
راح صدّاح يهاتف أخاه الميت وهو يناجيه ويصرّح له أن الأربعين الذين حملوك يا أبو هواش على أكتافهم صاروا من حزب علي بابا وحملوا قنوة لمن ينافسهم في مناصبهم وقد امتدت مظاهراتهم ومحمياتهم من ميناء العقبة إلى الفوسفات إلى الهيئات وحتى المصفاة الوطنية.
شتّان ما بين قنوتك وقنواتهم يا أبو هوّاش، شتّان ما بين كفك النازف من حصد القمح وفلاحة الأرض وأكفهم التي لا تتعب من أكوام الرز في أيديهم وكروشهم في حفلات المنسف اليومية بعد كل تقاسم لكعكة الوطن.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى