
لولا #غزة لعلفتكم خيول #التتار ولرعيتم خنازيرهم
كتب .. #الشيخ_كمال_الخطيب
هذا إذا كان الهدف هو شيء من أشياء الدنيا مالًا أو جاهًا أو منصبًا، فكيف إذا كان الهدف أخرويًا وهو الجنة، فلا شك عند ذلك أنه سيمضي لبلوغها ولن يغريه بريق الدنيا الزائف فيشغله عنها “ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة”. ولأن الجنة هي غاية ومحبوبة ومراد أصحاب النفوس الكبيرة، فإن هؤلاء على استعداد لإتعاب أجسادهم وإنفاق أموالهم بل إنه لا يضرّهم أن يبيعوا أنفسهم وأموالهم ثمنًا لها {إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ} آية 111 سورة التوبة. وقد قال في ذلك الشاعر:
إذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسام
إن الذين اختاروا الجنة موعدًا “صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة” فإنهم يعلمون أن من أسباب الوصول إليها ودخولها هو نقاء القلب وصفاء النفس كما قال ﷺ: “أفضل الناس كل مخموم القلب صدوق اللسان. قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: التقيّ النقيّ لا إثم فيه ولا بغي ولا غلّ ولا حسد”.
ما أحوجنا في هذا الزمان الذي طغت فيه على الناس المادية والأنانية وحبّ الذات والمصلحة الشخصية حتى لو كانت على حساب مصالح الآخرين بل على حساب دمائهم وأرواحهم. ما أحوجنا إلى أصحاب النفوس الطيبة النقية، ما أحوجنا إلى القلوب الرقيقة، ما أحوجنا إلى العواطف النبيلة، ما أحوجنا إلى حسن الظن وألّا نعظّم أخطاء الآخرين بل أن ننظر إلى خطأ من الأخطاء أنه كان زلة عابرة وفي لحظة ضعف بشري، وأن صاحبها ليس من الأشرار بل لعلّها ظروف حرجة وأسباب قاهرة كانت وراء تلك الزلّة سواء كانت قولًا أو فعلًا. فأصحاب النفوس الكبيرة هم من يلتمسون العذر ويتعاملون بمنطق أن لو كان هو من أخطأ بحق غيره لتمنى أن يلتمس له الذي أخطأ بحقّه العذر، فلماذا لا يلتمس هو العذر للآخرين وقد قيل: “التمس لأخيك عذرًا إلى سبعين عذر، فإن لم تجد فقل لعل له عذرًا لا أعلمه”. وقد قال رجل لآخر: “بكم بعت صاحبك، قال: بتسعين زلة، فردّ عليه الآخر: لقد أرخصته، أي أنك بعته بثمن زهيد”. لكأنه يقول له كان عليك أن تتحمل أكثر ولا تتخل عن صديقك حتى لو بلغت زلّاته تسعين فلعل له أعذارًا أخرى.
كم كان يوسف الصديق نبيلًا وكبيرًا ورقيق القلب وصافي النفس وهو يسمع إخوته بعد أن كشف عن وجود صواع الملك في حمل أخيه الصغير، وإذا بهم يتهمون الأخ لا بل يذهبون بعيدًا بالنيل من أخيه يوسف الذي سبق وتآمروا عليه وباعوه بثمن بخس دراهم معدودة، فكان قولهم: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} آية 77 سورة يوسف. ليس أن هذه الكلمات فيها من الإساءة والظلم ما فيها ، بل إنها تفتح جراحات غائرة لم تندمل حيث موقفهم من أخيهم يوسف وحسدهم له، وأن نفوسهم ما تزال تنضح بهذا الكيد والحسد رغم مرور السنين، ولكن يوسف صاحب النفس الكبيرة، فقد وصفه الله عز وجل بعد سماع تلك الكلمات بقوله سبحانه: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} آية 77 سوره يوسف.
الفقيه وسارق عمامته
بينما كان أحد الفقهاء يمشي في أحد أزقة مدينة من المدن، وإذا بلصٍ يترصد له عند زاوية من زوايا ذلك الزقاق، وبسرعة وخفة فقد مدّ يده وخطف العمامة التي كانت على رأس الشيخ ثم أطلق ساقيه للريح وهرب من المكان.
الغريب واللافت أن الفقيه الذي سُرقت عمامته لم يصرخ ولم ينادِ الناس مستغيثًا أن يعينوه ليلحق بالسارق لاسترداد العمامة، وإنما أخذ هو بنفسه يجري خلف السارق يقول له: “وهبتك إياها قل قبلت، وهبتك إياها قل قبلت”.
إنها لحظة واحدة كان الفقيه بين أن يشعر بالإهانة من لصٍ يسرق عمامته التي فيها من الرمزية ما فيها فيسبّ ويشتم ويستصرخ الناس رغم أن العمامة لا تساوي خمسة دراهم، وبين أن يرقّ قلبه ويلتمس العذر ويقول في نفسه، لولا أنها الحاجة الملحّة التي دفعت هذا الرجل لسرقة عمامتي، فاختار أن يجري خلف السارق فيقول له: إنه وهبه العمامة هدية وهبة منه حتى لا يشعر إذا باعها وانتفع بثمنها أنه يكون قد أكل حرامًا، فكان يقول له: “وهبتك إياها”، ثم يطلب منه أن يعلن قبول العطية والهبة لتتم الصفقة، “قل قبلت،” وليس أن اللص قد أطلق ساقيه للريح وإنما سدّ أذنيه من أن يسمع لأحد زيادة على أنه ما كان يعلم صفاء قلب الفقيه وأنه لا يريد أن يسجل عليه أن العمامة مسروقة، وإنما هي عطية من الفقيه.
إن سموّ نفس ذلك الفقيه جعلته لا يشغل نفسه بنفسه وعمامته التي سرقت، وإنما يشغل نفسه بالسارق وكيف يوجد له المخرج لعدم محاسبة ضميره له في الدنيا ومحاسبة الله تعالى له يوم القيامة.
وإن سموّ نفس الفقيه هو من هدي رسول الله ﷺ الذي قال:” أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال: إني تصدّقت بعرضي على الناس” أي أنه لا يطلب مظلمته ممن أساء إليه أو نال منه لا في الدنيا ولا في الآخرة. إنه لا يفعل ذلك ضعفًا ولا جبنًا، ولكن لأنه لا يريد أن يشغل نفسه بتفاهات الآخرين ودنياهم ولا بسفاسف الأشياء.
عليك خشينا وقفة الخجل
إنها قصة شاب كان والده يعمل بتجارة الجواهر والياقوت والأحجار الكريمة وكان على ثراء واسع، ومن كثرة الغنى والمال، فإن ابن هذا التاجر كان يكرم أصدقاءه أيّما إكرام ينفق عليهم إنفاق من لا يخشى الفقر، ولأجل ذلك كانوا يجلّونه ويحترمونه، وكان والد الشاب يعلم ذلك ولا يمنع ابنه من هذا السلوك مع أصدقائه لأنه كان كله في الحلال وفي غير معصية.
ودارت الأيام وتقلّبت الأحوال ومات الوالد التاجر الغني وتغيّرت أحوال العائلة وظروفها من غنى إلى فقر ومن عزّ إلى ذلّ وحاجة. ومع اشتداد وطأة الظروف وقسوتها، فقد راح الشاب يقلب صفحات أيام الغنى والعزّ يبحث عن أصدقاء الأمس الذين كان يكرمهم وينفق عليهم فوجدهم على ما هم عليه من إمكانات لا يستطيعون بها الوقوف إلى جانبه إلا صديقًا واحدًا من هؤلاء وكان أقربهم إليه مودة وأكثرهم إنفاقًا عليه، فقد فُتحت عليه أبواب الرزق من كل ناحية وأثري ثرى عظيمًا، وأصبح من أصحاب القصور والأموال.
سأل الشاب عن صديقه الذي كان قد انتقل إلى مدينة أخرى، فذهب إليه علّه يجد عنده عملًا أو أن يقرضه مالًا أو أي سبيل به يصلح أحواله. فلمّا وصل إلى باب القصر الفخم استقبله خدّام القصر والعاملون به وسألوه عن حاجته ومن يكون، فعرّفهم على نفسه وعن صلته وصداقته القديمة بصاحب القصر. دخل أحدهم إلى الداخل يستأذن صاحب القصر الذي كان يراقب من خلف ستارة نافذة من نوافذ القصر، ذلك الرجل وقد عرفه وشاهد ثيابه الرثّة والبؤس الذي يظهر في ملامح وجهه لكنه اعتذر عن استقباله دون أن يبدي لخدمه أنه يعرفه، واندفع إلى غرفته صامتًا وقد تغيّرت ملامح وجهه. أما الرجل على الباب فترك المكان هائمًا على وجهه وقد تبددت آمال كان يعقدها على ذلك الصديق ويبكي على صداقة ماتت وعلى وفاء اندثر أهله.
مضت أيام حتى طرق عليه الباب ثلاثة رجال، فلمّا خرج إليهم قالوا: هذا بيت فلان وسموا اسم الوالد، قال: نعم ولكن أبي مات من مدة. فحوقل الشبان الثلاثة قائلين لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم راحوا يثنون على أبيه ويذكرونه بالخير قائلين له: إن والدك الذي كان يتاجر بالجواهر والمرجان والأحجار الكريمة كان قد ترك أمانة عند والدنا وجئنا نرد الأمانة له، أما وأنه مات وأنت ابنه فهذه الأمانة، ودفعوا له بكيس مليء بالجواهر والأحجار الكريمة بينما الشاب مشدوهًا مشدودًا من هول الصدمة لا يكاد يصدق ما ترى عيناه، بينما بدأت تقفز إلى ذهنه أسئلة كثيرة ماذا أفعل بهذه الجواهر؟ وأين أبيعها؟ وكيف ومن أين أبدأ ببناء نفسي من جديد؟.
وبينما هو خارج بعد يوم من بيته استوقفته امرأة كبيرة في السن تظهر عليها آثار النعمة وإذا بها تسأله: سمعت أن في بلدكم من يتاجرون بالأحجار الكريمة. تسمّر الرجل في مكانه متلعثمًا يسألها عن أي نوع من المجوهرات والأحجار الكريمة تسأل، فأجابته أنها تبحث عن الأجود والأثمن. دخل الشاب إلى البيت ورجع يحمل بعضًا مما أعطاه إياه الرجال الثلاثة وعرضها على المرأة التي أبدت دهشتها من جمال ما رأت فدفعت له مالًا وفيرًا ووعدت بأن تعود لتشتري المزيد ليبدأ حال هذا الشاب يتغير من عسر إلى يسر ويعود ليمارس التجارة التي كان يمارسها والده.
بعد أن ظهرت آثار النعمة من جديد على الشاب فتذكر الزمن من الماضي والأصدقاء الذين أداروا له الظهر، خاصة ذلك الشاب الذي أصبح من الأثرياء وأصحاب القصور، فكتب له بيتين من الشعر وأرسلهما مع من يوصلهما إليه قال فيهما:
صحبت قومًا لئامًا لا وفاء لهم يدعون بين الورى بالمكر والحيل
كانوا يجلّونني إذ كنت ربّ غنى وحين أفلست عدّوني من الجهل
فلما قرأ الصديق الثري هذين البيتين من الشعر أخذ ورقة وكتب فيها ثلاثة أبيات من الشعر وسلّمها للرجل الذي جاء إليه قال فيها:
أما الثلاثة قد وافوك من قبلي ولم تكن سببًا إلا من الحيل
أما من ابتاعك المرجان والدتي وأنت أنت أخي بل منتهى أملي
وما طردناك من بخل ومن قلل لكن عليك خشينا وقفة الخجل
هكذا هم إذن أصحاب النفوس الكبيرة الذين لا تطيق نفوسهم أن ترى إنسانًا في موقف ضعف أو هوان أو انكسار. إنه فعل كل ما فعل من تظاهر برفض استقباله في قصره إلى إرسال من يتظاهرون أن لوالد الشاب كانت أمانة ثمينة عندهم إلى إرسال والدته التي تظاهرت بالبحث عمّن يبيع مجوهرات وحجارة كريمة ثمينة التي كان أرسلها هو لتشتريها بأثمان غالية، وما كل ذلك إلا لأنه كان لا يحتمل أن يقف صديقه الذي كان ينفق عليه أيام ثراء والده وقفة الخجل والضعف والانكسار وهو يقول له: “ولكن عليك خشينا وقفة الخجل”.
هكذا هم أصحاب النفوس الكبيرة يتمثلون وصية الفضيل بن عياض وهو يقول: “ارحموا عزيز قوم ذل”.
لأنهم لا يخجلون
ها هي الأيام تدور وأهلنا وشعبنا في غزة يتضورون جوعًا يبحثون عن كسرة خبز يابسة بها يسدون جوع أطفالهم الذين يبيتون جوعى. وها هم أهلنا وأبناء شعبنا في غزة الذين لا يجدون لقمة الغذاء ولا شربة الماء ولا حبة الدواء بسبب الحصار الذي يفرضه عليهم الاحتلال الإسرائيلي الظالم. ولكن الأظلم منه، فإنهم عرب ومسلمون جيران غزة من يغلقون حدودهم ومعبر رفح تحت سيادتهم، ولو أرادوا لفتحوه وأدخلوا الماء والغذاء والدواء المكدّس في آلاف الشاحنات في الجانب المصري.
وليس أنهم يبخلون على أهل غزة بالماء والغذاء والدواء، بل إنهم يبخلون بالمشاعر الإنسانية والأحاسيس والمشاعر الإسلامية وهم يحمّلون أهل غزة أسباب الحصار، وكأن هذا الحصار ليس عمره 18 سنة أي منذ العام 2007، بل وكأن قضية شعبنا ومظلوميته لم تبدأ منذ 76 سنة من يوم أوقعوا على شعبنا النكبة، فهجّر أهلنا وسط فلسطين وجنوبها إلى غزة وبنوا هناك مخيماتهم التي تهدم الآن ويهجّر أهلها من جديد.
إن هؤلاء الذين يجلسون ويتفرجون على أهل غزة، ينسون فضل أهل غزة وفلسطين عليهم في كثير من المواقف التي شهدت الوثائق قيام فلسطين بتقديم العطاء لإغاثة أهل مصر وأهل بلاد الحرمين. فها هي أرشيفات الصحف التي كانت تصدر يومها تتحدث عن المرأة الفاضلة الفلسطينية عائشة وابنتها مكرم أبو خضرة من مدينة غزة تتبرعان بعشرة آلاف جنيه فلسطيني والتي كانت تعادل يومها عشرة آلاف جنيه إسترليني ذهبًا لإقامة مستشفى في المدينة المنورة وكان ذلك في العام 1945. وها هي صحيفة أم القرى وفي أرشيفها خبر قيام وجهاء من الخليل بإرسال خطاب إلى الملك عبد العزيز بن سعود يعلنون فيه إرسال تبرعات وصدقات من أهل الخليل توزع على الفقراء والمحتاجين من أهل المدينة المنورة. وها هي صحيفة فلسطين في عددها الصادر يوم 2/11/1947 تنشر عن قيام السيد محمد أبو رمضان رئيس جمعية الهلال الأحمر في غزة بالتبرع بمبلغ مئة جنيه فلسطيني لحكومة مصر لإغاثتها بعد كارثة تفشي وباء الكوليرا الذي حصد أرواح آلاف المصريين.
إننا لا نذكّر بهذا تفضلًا ولا منًّا، ولكن للتذكير بأن شعوبنا الخيّرة كانت معطاءة لبعضها، وأن شعبنا الفلسطيني رغم وقوعه يومها تحت الاستعمار الإنجليزي إلا أنه كان لا يتخلى عن مؤازرة إخوانه العرب والمسلمين.
لكن ما يحدث في أيامنا هذه من حالة الصمت والخذلان لما يجري في غزة، وأنا على يقين أن سبب هذا هو ديكتاتورية الأنظمة التي تمنع وتقمع الشعوب من رفع الصوت ضد المجازر التي ترتكب بحق أهل غزة، هذه الأنظمة التي ارتضت لنفسها أن تؤدي دور النواطير والحراس لحدود إسرائيل.
يكفي غزة فضلًا أنها التي أوقفت الزحف التتري على بلاد المسلمين في العام 1260 يوم كان يقال: “إذا قيل لك أن التتار قد انهزموا فلا تصدق”. وكانت غزة أول من واجهت زحوف التتار وكان ذلك مقدمة لهزيمتهم في عين جالوت، ولولا ذلك لغابت شمس الإسلام يومها ولأصبحت نساء المسلمين سبايا لجنود التتار ورجالهم خدمًا وعبيدًا يعلفون خيولهم ويرعون خنازيرهم.
فإذا كان ذلك الشاب قد فعل ما فعل لصديقه وفاء له لئلّا يقف وقفة الخجل، فما بال زعماء العرب والمسلمين ورغم فضل أهل غزة عليهم فإنهم لا يستجيبون لتوسلاتهم ونداءات استغاثتهم وترك خذلانهم ولا مبالاتهم، ويرضون لهم وقفة الخجل؟
الجواب على ذلك واضح وضوح الشمس، وقد قال ﷺ: “إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت”. ولعلّ من بينهم من لا تجري في عروقهم دماء العرب ولا المسلمين.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.