تأملات قرآنية

#تأملات_قرآنية

د. #هاشم_غرايبه

يقول تعالى في الآية 253 من سورة البقرة: “تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ”.
من المنطقي أن الله تعالى حين يختار رسولا من بين البشر أن يكون هذا الشخص بمواصفات قياسية، فالمهمة الملقاة على عاتقه جليلة، ولا تقدر عليها الا النفوس العظيمة.
هؤلاء الصفوة من البشر أمرنا الله أن نوقرهم ونجلّهم، وأن لا نفرق في ذلك بين أحد منهم، لكن ذلك لا يعني أنهم على القدر ذاته عند الله، فهم قد جاءوا عصور متفاوتة وارسلوا الى اقوام مختلفين، ونالوا خلال أدائهم لمهماتهم صعابا متباينة، لذلك هم عند الله درجات، لكن ذلك ليس من شأننا كمؤمنين، فنحن نؤمن بما أنزلوا به جميعا، وليس لنا من العلم بشأنهم إلا ما أعلمنا الله به، فالله أعلم حيث يضع رسالاته.
وعليه فلا علم لنا بمن فضلوا على غيرهم، لكننا يمكننا أن نستشف من خلال كتابه تعالى الأسس التي جرت عليها تلك التفضيلات، ومن أبرزها:
1 – في هذه الآية كانت الإشارة الى الرسل بـ (تلك)، والتي تعنى الاشارة الى البعيد، أي الى الرسل السابقين لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه مخاطب بهذا القرآن، فلو كان مشمولا بهذه الآية لكان الأولى استعمال اشارة المخاطب كما في قوله في بداية سورة القلم: ” ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ . مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ . وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ . وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ”، أو في قوله تعالى في بداية سورة يس: “يسٓ . وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡحَكِيمِ . إِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ”.
لذا نستنتج أن رسول الله محمد عليه وعلى كل الأنبياء والمرسلين الصلاة والسلام، لا تنطبق عليه هذه سنة التفاضل، فهو حالة خاصة انفرد فيها بينهم جميعا.
2 – ما يعزز هذا الاستنتاج أنه صلى الله عليه وسلم بخلاف جميع الرسل السابقين، لم يخاطبه الله تعالى بإسمه المجرد (محمد)، بل دائما بصفته كنبي أو رسول، فيما كان خطاب الله تعالى لرسله الآخرين بأسمائهم المجردة، كقوله تعالى: “وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ” [الصافات:104]، و “فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ” [طه:11]، و “إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ” [آل عمران:55].
3 – جميع الرسالات السابقة كانت موقوتة زمانا ومكانا لأنها موجهة الى أقوام محددين، ولم يكلف أي رسول بتبليغ غير قومه: “وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً” [النحل:36]، و “وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ” [الرعد:7].
الرسول الوحيد الذي كلف بتبليغ قومه وكل الأمم الأخرى، في كافة بقاع الأرض ولكل العصور القادمة، ولذلك جعله الله خاتم الرسل هو محمد صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”.
4 – كل الأنبياء والرسل كانوا رحمة من الله لأقوام محددين، وكل منهم أرسل الى قومه عندما وصلوا الى مرحلة متقدمة من الضلال والفساد، منذرين إياهم لتجنب عذاب الله الماحق في الدنيا قبل عذابه المقيم في الآخرة، فيما كان محمد صلى الله عليه وسلم، رحمة من الله لكل البشر أجمعين: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” [الأنبياء:107].
5 – محمد صلى الله عليه وسلم هو الرسول الوحيد الذي امتدح الله أخلاقه، وبعبارة صريحة: “وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ” [القلم:4]، وهذه شهادة من الله العليم الخبير، ومن أعظم شهادة من الله!؟.
6 – لم يقرن الله تعالى طاعته بطاعة رسول كما فعل مع نبيه الكريم، بل جعل الطاعتين متلازمتين وشرطا للإيمان: “مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ” [لنساء:80]، و”قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ” [آل عمران:31].
7 – ويبقى التكريم الأعظم الذي ناله نبي هو قوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” [الأحزاب:56]، فالوحيد الذي اختصه الله بذلك التكريم هو محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد كرم الله المرسلين فمنهم من اتخذه خليلا ومنهم من كلمه ومنهم من أجرى معجزات على يديه، لكنه تعالى منح سيدنا محمد المنزلة الأرفع فوعده بالمقام المحمود وجعله سيد المرسلين.

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى