ثلاثة أيام في ” #وادي_الحدادة “

ثلاثة أيام في ” #وادي_الحدادة

#محمد_طمليه
تذكرت فجأة أن لي بيتا في ” وادي الحدادة ” ، وان لي مكتبة ، وجوارب نظيفة تحفظها امي تحت ” فرشة السرير “. وصورا لفتيات عابرات اخفيتها في مكان يصعب الاهتداء اليه ، وملاحظات مقتضبة على حائط الغرفة / غرفتي التي استولى عليها شقيقي الذي يليني مباشرة ، و ” فرشاة اسنان ” وضعتها آخر مرة في ” جرار الطاولة “..
تذكرت فجأة انني خرجت قبل سنوات لشراء السجائر على الاغلب ، ولكني نسيت ان ارجع : اخذتني الصحافة ، والنهم الشديد للتورط في الحماقات العارضة ، والتوق للتنصل من أي ارتباط ، والقناعة بأن الأسرة قيد ، والانتظام في تناول الوجبات قيد ، والقاء التحية على الجار الخبيث قيد ، والطبيخ الدسم يوم الجمعة قيد ، وقيلولة الظهيرة قيد : ان خير وسيلة للعيش هي المسير بهمة ونشاط وصولا الى . . . لا شيء .
وها أنذا اقولها صراحة ، سوف لا يعرف المرء معنى الحياة الا اذا واظب على التردي ، وحرص على البقاء في اماكن تجعل دق عنقه امرا ممكنا . .
أنا اؤمن بذلك ، ولكني شعرت فجأة انني في حاجة لقليل من الخنوع ، فقررت ان ارجع ، مع ما يرافق ذلك من خزي وعار ، الى بيت امي..
وجدت الباب الخارجي موصدآ . اين ذهبوا ؟ فاتني ان اشير الى ان للانحراف طابعا وراثيا ، أي ان اشقائي أوغاد ايضا ، قرعت الباب مرة اخرى على أمل أن يستجيب ” الابن المناوب ” ، ولكن عبثا ، هممت بالرجوع ، الا ان جارتنا نادتني من الخلف وقالت انهم تركوا المفتاح معها..
البيت رطب وغير مرتب : لو كان معي ضيف لاعتقد في ضوء الفوضى أن البيت شهد قبل لحظات من وصولي نزاعا اسريا ضروسا اسفر من المؤكد عن جرحى وشهداء ..
ثم ، ها أنذا في غرفتي : استلقيت على السرير الذي افنيت فيه ايام الدراسة الجامعية ردحا من القلق ، غفوت . حلمت ، على ما اذكر ، بأبي الذي مات في ” بغداد ” ، وبقرى الجنوب التي تنقلنا فيها : كنت صغيرا وجائعا باستمرار . كان ابي معلما وواعظ مسجد وربما تاجرا وسائقا ايضا . وحلمت ، على ما اذكر ، انني ابحث عن ابي في مقبرة يرقد فيها اكثر من 500 شخص ، الا انني وجدته في النهاية ، لقد اسعدني واشعرني بزهو ان لأبي قبرا حقيقيا…
حلمت على ما اذكر ب ” كرة الجوارب ” وبقلم الرصاص المفطوع على الدوام ، وبابنة الجيران التي كانت تصعد الى السطوح بحجة نشر الغسيل ، وبالعروس التي جيء بها ، ولا ادري لماذا ، الى بيتنا ، ثم اخضعتها النسوة المجربات لعملية تنظيف شاملة : كنت صغيرا انذاك ولم يعترض احد على وجودي في الغرفة..
حلمت ، على ما اذكر ، بالكدمات التي ورثتها عن المشي على الحواف ، وبمغص البطن الذي كان ينجم عادة عن تناول وجبات اخفقت ” النملية ” في ابقائها سليمة .
حلمت . . . ليتني بقيت نائما…
امضيت ثلاثة أيام عند اخوتي في ” وادي الحدادة ” …
من اشكال الحفاوة التي قوبلت بها هناك ان امي وضعت في مقر اقامتي ” بابور كاز ” للتدفئة ، و ” فرشة ” ثقيلة مع المزيد من الاغطية ، ودجاجة سمينة قيل انها ستذبح في الحال…وكان ثمة اطفال بكميات كبيرة أدركت انهم ولدوا في غيابي . . .

  • منذ متى لم ازر هذا المكان ؟
    الحكاية بدأت هكذا : الحصول في وقت مبكر على عضوية ” رابطة الكتاب ” ، والنوم في مقر الرابطة مستفيدا من المكتبة والانارة الجيدة والتأمل باعتباري وحيدا في المبنى : كان لي اغطية صادرتها الشرطة بعد صدور قرار حكومي عرفي باغلاق الرابطة ، وقد طالبت بهذه الاغطية فيما بعد ، ولكن الوزير اكد انهم لم يعثروا عليها في المستودعات . وهكذا غدوت بلا مأوى ، ولا غطاء…
    انتقلت بعدها للاقامة هنا وهناك : كان يهمني ان اقرأ واكتب دون حساب للظروف المحيطة : كنت مصمما على ان اصبح كاتبا عظيما…
    واخذتني الصحافة بعد ذلك ، وربما كان لاصدقاء السوء دور في ابتعادي اكثر واكثر عن بيت العائلة ، وهذه قصة سوف ارويها قريبا .
  • ها أنذا من جديد في ” وادي الحدادة “…
    المنطقة تبدلت وتغيرت بعد شق وتعبيد ” شارع الاردن ” : صار الناس اكثر دماثة وتهذيبا ، ولكني لاحظت ان هناك حرصا على التقاليد ، وفي مقدمتها رمي القمامة كيفما اتفق ، والحفاظ على ” قدحة الثوم ” كرائحة مميزة في الازقة ، وضرب الزوجات..
    ” وادي الحدادة “
  • انت لا تضجر هناك ، ذلك انك تصبح سريعا طرفا في هراء عام محبب الى النفس ، وزحام متعمد في اكثر الاحيان ، وقطط متفهمة ، وبنات مدارس سوف يكبرن في لمح البصر ويتضخمن تمشيا مع ” ام العبد ” وعاطلين عن العمل جلسوا او وقفوا هنا وهناك هربا مت حدة التأنيب في المنازل ، وانا اراقب كل هذا من نافذة الغرفة..
  • ” وادي الحدادة “…
    تساءلت : هل استطيع العيش هنا مجددا ؟ وهل خروجي من هذه المنطقة نوع من الترفع عن بيئة نشأت فيها ؟ وهل استجيب لدعوة امي بالعودة ؟
    ما زلت افكر..

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى