شهر الرحمة والقرآن والغفران والعتق من النيران
ماجد دودين
معانــــــــــي الصـــــــــوم
الحمدُ للهِ الذي أنشأَ وبَرَا… وخلقَ الماءَ والثَّرى… وأبْدَعَ كلَّ شَيْء وذَرَا… لا يَغيب عن بصرِه صغيرُ النَّمْل في الليل إِذَا سَرى… ولا يَعْزُبُ عن علمه مثقالُ ذرةٍ في الأرض ولاَ في السَّماء… {لَهُ مَا فِي السَّمَوَتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى} [طه: 6 – 8]… خَلَقَ آدَمَ فابتلاه ثم اجْتَبَاهُ فتاب عليه وهَدَى… وبَعَثَ نُوحاً فصنَع الفُلْكَ بأمر الله وجَرَى… ونَجَّى الخَليلَ من النَّارِ فصار حَرُّها بَرْداً وسلاماً عليه فاعتَبِرُوا بِمَا جَرَى… وآتَى مُوسى تسعَ آياتٍ فَمَا ادَّكَرَ فِرْعَوْنُ وما ارْعَوَى… وأيَّدَ عيسى بآياتٍ تَبْهَرُ الوَرى… وأنْزلَ الكتابَ على محمد صلى الله عليه وسلّم فيه البيَّناتُ والهُدَى… أحْمَدُه على نعمه التي لا تَزَالُ تَتْرَى… وأصلِّي وأسَلِّم على نبيِّه محمدٍ المبْعُوثِ في أُمِ القُرَى… صلَّى الله عليه وعلى صاحِبِهِ في الْغارِ أبي بكرٍ بلا مِرَا… وعلى عُمَرَ الْمُلْهَمِ في رأيه فهُو بِنُورِ الله يَرَى… وعلى عثمانَ زوجِ ابْنَتَيْهِ ما كان حديثاً يُفْتَرَى… وعلى ابن عمِّهِ عليٍّ بَحْرِ العلومِ وأسَدِ الشَّرى… وعلى بَقيَةِ آله وأصحابِه الذين انتَشَرَ فضلُهُمْ في الوَرَىَ… وسَلَّمَ تسليماً.
ما هي الغاية العظمى من الصوم؟ وما أهم معاني الصوم؟
· الإخـــــــــــــــــــــــــــــــلاص عنــــــــــــوان الصـــــــــــوم
أحلى أعطيات الصوم وأغلى معانيه الإخلاص… والإخلاص لله خَلاصٌ وتجردٌ بعيداً بعيداً عن أوحال الأرض.
والصوم هو العبادة الوحيدة التي خُصَّت بالنسبة إلى الله “إلا الصيام فإنّه لي”
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ…قَالَ اللَّهُ “كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ . . . الحديث. “
ولما كانت الأعمال كلها لله وهو الذي يجزي بها … اختلف العلماء في قوله”: الصيام لي وأنا أجزي به” لماذا خُصّ الصوم بذلك؟
وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله من كلام أهل العلم عشرة أوجه في بيان معنى الحديث وسبب اختصاص الصوم بهذا الفضل … وأهم هذه الأوجه ما يلي:
· أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره… قال القرطبي: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء… والصوم لا يطّلع عليه بمجرد فعله إلا الله فأضافه الله إلى نفسه ولهذا قال في الحديث” يدع شهوته من أجلي”. وقال ابن الجوزي: “جميع العبادات تظهر بفعلها وقلّ أن يسلم ما يظهر من شوبٍ” …يعني قد يخالطه شيء من الرياء” بخلاف الصوم.
· أن المراد بقوله”: وأنا أجزى به” أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته. قال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كُشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير. ويشهد لهذا رواية مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ… قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ” أي أجازي عليه جزاء كثيرا من غير تعيين لمقداره … وهذا كقوله تعالى: “…إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب”.
· أن معنى قوله” الصوم لي “أي أنه أحب العبادات إليّ والمقدّم عندي. قال العلماء: كفى بقوله: (…الصوم لي” فضلا للصيام على سائر العبادات. وروى النسائي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “…عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ … فَإِنَّهُ لا مِثْلَ لَهُ”. صححه الألباني في صحيح النسائي.
· أن الإضافة إضافة تشريف وتعظيم… كما يقال: بيت الله… وإن كانت البيوت كلها لله. قال العلماء: التخصيص في موضع التعميم في مثل هذا السياق لا يفهم منه إلا التعظيم والتشريف.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وَهَذَا الحديثُ الجليلُ يدُلُّ على فضيلةِ الصومِ من وجوهٍ عديدةٍ:
الوجه الأول: أن الله اختصَّ لنفسه الصوم من بين سائرِ الأعمال… وذلك لِشرفِهِ عنده… ومحبَّتهِ له… وظهور الإِخلاصِ له سبحانه فيه … لأنه سِرُّ بَيْن العبدِ وربِّه لا يطَّلعُ عليه إلاّ الله. فإِن الصائمَ يكون في الموضِعِ الخالي من الناس مُتمكِّناً منْ تناوُلِ ما حرَّم الله عليه بالصيام … فلا يتناولُهُ؛ لأنه يعلم أن له ربّاً يطَّلع عليه في خَلوتِه … وقد حرَّم عَلَيْه ذلك … فيترُكُه لله خوفاً من عقابه … ورغبةً في ثوابه … فمن أجل ذلك شكر اللهُ له هذا الإِخلاصَ … واختصَّ صيامَه لنفْسِه من بين سَائِرِ أعمالِهِ ولهذا قال: “…يَدعُ شهوتَه وطعامَه من أجْلي”. وتظهرُ فائدةُ هذا الاختصاص يوم القيامَةِ كما قال سَفيانُ بنُ عُييَنة رحمه الله: إِذَا كانَ يومُ القِيَامَةِ يُحاسِبُ الله عبدَهُ ويؤدي ما عَلَيْه مِن المظالمِ مِن سائِر عمله حَتَّى إِذَا لم يبقَ إلاَّ الصومُ يتحملُ اللهُ عنه ما بقي من المظالِم ويُدخله الجنَّةَ بالصوم.
الوجه الثاني: أن الله قال في الصوم: “…وأَنَا أجْزي به” فأضافَ الجزاءَ إلى نفسه الكريمةِ؛ لأنَّ الأعمالَ الصالحةَ يضاعفُ أجرها بالْعَدد … الحسنةُ بعَشْرِ أمثالها إلى سَبْعِمائة ضعفٍ إلى أضعاف كثيرةٍ … أمَّا الصَّوم فإِنَّ اللهَ أضافَ الجزاءَ عليه إلى نفسه من غير اعتبَار عَددٍ … وهُوَ سبحانه أكرَمُ الأكرمين وأجوَدُ الأجودين … والعطيَّةُ بقدْر مُعْطيها. فيكُونُ أجرُ الصائمِ عظيماً كثيراً بِلاَ حساب. والصيامُ صبْرٌ على طاعةِ الله … وصبرٌ عن مَحارِم الله … وصَبْرٌ على أقْدَارِ الله المؤلمة مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ وضعفِ البَدَنِ والنَّفْسِ … فَقَدِ اجْتمعتْ فيه أنْواعُ الصبر الثلاثةُ … وَتحقَّقَ أن يكون الصائمُ من الصابِرِين. وقَدْ قَالَ الله تَعالى: “…إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ” الزمر/10
وكما قال الإمام أحمد: لا رياء في الصوم … والجنة لا تطلب إلا قلباً خالصاً لله
والصوم يعلّم الناس الإخلاص… فما صام منافق مرائي.
والغاية الواحدة في مصطلح القرآن هي الإخلاص وهي محور دعوات الرسل… يقول تبارك وتعالى:” … إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ.) سورة الزمر (2)”
” قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (11) الزمر…“وكثير من الآيات التي تحمل نفس المعنى وتركّز على الإخلاص.
والإخلاص: نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق.. أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة… وإخراج الخلق عن معاملة الرب.
والإخلاص أشد شيء على النفس لأنه ليس لها فيه نصيب.
والصدق في الإخلاص من أشد الأمور على النفوس… يقول سفيان الثوريّ: “ما عالجت شيئاً عليّ أشد من نيّتي… إنها تتقلب عليّ”.
والإخلاص هو الحرية في أرقى صورها وأكمل مراتبها… لا لا يا قيود الأرض.
تفيض نفوس بأوصابها … وتكتم عُوادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي … جَواْها إلى غير أحبابها
شجرة الإخلاص أصلها ثابت… لا يضرها زعزع” …أين شركائي” … وأما شجرة الرياء فاجتثت عند نسمة” …وقفوهم” … لريح المخلصين عطرية القبول… وللمرائي سموم النسيم… نفاق المنافقين صيّر المسجد بلا أي قيمة “…”…لا تقم فيه أبداً” وإخلاص المخلصين رفع قدر المدفوع بالأبواب الأشعث الأغبر ” قال رسول الله ﷺ: رُبَّ أشعثَ أغبرَ مدفوعٍ بالأبواب… لو أقسم على الله لأبرّه [رواه البخاري ومسلم] “…
الإخلاص مسك مصون في مسك القلب… تنبه ريحه.. العمل صورة والإخلاص روح.
الإخلاص اليسير كثير… وخليج صاف أنفع من بحر كدر… أتحدو ومالك بعير؟!… أتمد القوس وما لها وتر؟!…
كم بذل نفسه مراءٍ لتمدحه الخلائق فذهبتْ والمدح… ولو بذلها للحق لبقيتْ والذِكر… المرائي يحشو جراب العمل رملاً فيثقله ولا ينفعه… ريح الرياء جيفة منتنة تتحاماها مسام القلوب.
لما أخذ دود القز ينسج أقبلت العنكبوت تتشبه وقالت: لك نسج ولي نسج… فقالت دودة القز: ولكنّ نسجي أردية بنات الملوك ونسجك شبكة الذباب وعند مسّ النسيجين يبيْن الفرق ويتّضح.
إِذا اِشتَبَهَت دُموعٌ في خُدودٍ تَبَيَّنَ مَن بَكى مِمَّن تَباكــــــــــى
فأمّا من بكى فيذوب شوقا … وينطق بالهوى من قد تباكى
والأمة أحوج ما تكون إلى إخلاص أبنائها… قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إنما ينصر الله هذه الأمه بضعيفها… بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم” … وفيه خلاص الأمة ورفعتها…
قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” بشِّر هذه الأمة بالسناء والدين… والرفعة والتمكين في الأرض… فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب” … وفي رواية للبيهقيّ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: “بشر هذه الأمة بالتيسير والسناء… والرفعة بالدين والتمكين في البلاد والنصر… فمن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا… فليس له في الآخرة من نصيب”.
ما أحوجنا إلى الصيام والإخلاص قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إنما يُبعث الناس على نياتهم” … وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إنما يُحشر الناس على نياتهم”.
ما أحوجنا إلى الفرار من الرياء والصيام خير عون… عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول:”من سمَّع الناس بعمله سمَّع الله به مسامع خلقه وصغّره وحقَّره” … وقال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” ثلاث لا يُغَل عليهن قلب امرئ مؤمن: إخلاص العمل لله… والمناصحة لأئمة المسلمين… ولزوم جماعتهم… فإن دعاءهم يحيط من ورائهم”.
ولو لم يكن في الإخلاص إلَّا طرد الخيانة والحقد من القلب لكفاه شرفاً… فكيف والأعمال ميتة بدونه… وقشر خالٍ من اللباب سواه.
ومن هنا تأتي أهمية الصوم ومعناه الكبير! إذ كل عبادة سواه قد يدخلها الرياء وإرادة وجه المخلوقين حتى الصلاة خير الأعمال قد يدخلها الرياء.
عَن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: خرج علينا رسولُ اللهِ – صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ – ونحن نتذاكر المسيحَ الدجالَ فقال: ألا أخبركم بما هو أخوفُ عليكم عندي من المسيحِ الدجالِ؟، فقلنا: بلى، يا رسولَ اللهِ قال: الشركُ الخفيُّ: أن يقوم الرجل فيصلي فيزيدُ صلاتَه؛ لما يرى من نظرِ رجلٍ.”
حذَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أُمَّته مِن كل ما يُبطِلُ أجْرَ الأعمالِ، ومِن ذلك: طلَبُ الرِّياءِ بالأعمالِ.
وفي هذا الحديثِ يُحذِّرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مِن الرِّياءِ، حيثُ يقولُ أبو سَعيدٍ الخُدريُّ رَضي اللهُ عنه قال: “خرَج علينا رسولُ الله صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ونحن نتَذاكَرُ المسيحَ الدَّجَّالَ”، أي: يُراجِعُ بعضُنا بعضًا في أمرِ مَسيحِ الضَّلالةِ الَّذي سيَظهَرُ في آخِرِ الزَّمانِ، فقال لهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: “ألَا أُخبِرُكم بما هو أخوَفُ عليكم عِندي مِن المسيحِ الدَّجَّالِ؟”، أي: يَكونُ عليكم أشَدَّ في الفِتْنةِ مِن المسيحِ الدَّجَّالِ الذي فِتنتُه مِن أعظمِ الفِتنِ؟ فقال الصَّحابةُ رَضي اللهُ عنهم: “بَلى”، أي: أخبِرْنا يا رسولَ اللهِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: “الشِّركُ الخَفيُّ: أنْ يقومَ الرَّجلُ يُصلِّي فيُزيِّنُ صلاتَه لِما يرَى مِن نظَرِ رجلٍ”، وهذا هو الرِّياءُ بالأعمالِ حتَّى يَراه النَّاسُ، وهذا يُنافي الإخلاصَ المأمورَ به، وهذا الرِّياءُ يُحبِطُ العمَلَ، وسُمِّي شِركًا خَفيًّا لأنَّه يكونُ غيرَ ظاهرٍ، بل يكونُ في خفايا النَّفسِ البشريَّةِ ولا يَعلَمُه إلَّا اللهُ سبحانه وتعالى ولا يُظهِرُه العبدُ للنَّاسِ؛ بل يُضمِرُه في قلبِه ويَفرَحُ بنظَرِ النَّاسِ إلى عملِه دونَ مُراعاةٍ لنظَرِ اللهِ ودونَ قصْدِ وجهِ اللهِ بالأعمالِ. وفي مُسنَدِ أحمدَ، عن أبي موسى الأشعريِّ رَضي اللهُ عنه قال: خطَبَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ذاتَ يومٍ فقال: “يا أيُّها النَّاسُ، اتَّقوا هذا الشِّركَ؛ فإنَّه أخفَى مِن دَبيبِ النَّملِ”.
وشَوائبُ الرِّياءِ الخفيِّ كثيرةٌ لا تَنحصِرُ؛ فمَتى أدركَ الإنسانُ مِن نفْسِه تَفْرِقةً بين أن يُطَّلَعَ على عِبادتِه أو لا يُطَّلَعَ، ففيه شُعبةٌ مِن الرِّياءِ، ولكنْ ليس كلُّ شائبةٍ مُحبِطةً للأجرِ، ومُفسِدةً للعملِ، وليس كلُّ سرورٍ برؤيةِ النَّاسِ للعملِ مُحبِطًا للأجرِ؛ لأنَّ السُّرورَ يَنقسِمُ إلى مَحمودٍ ومَذمومٍ؛ فالمحمودُ أن يكونَ قصْدُ الإنسانِ إخفاءَ الطَّاعةِ، مع الإخلاصِ للهِ، ولكنْ لَمَّا اطَّلعَ عليه الخلقُ، عَلِم أنَّ اللهَ أطلَعَهم، وأظهَر الجميلَ مِن أحوالِه، فيُسَرُّ بحُسنِ صُنعِ اللهِ، ولُطفِه به؛ فيَكونُ فرَحُه بذلك، لا بحمْدِ النَّاسِ وقيامِ المنزلةِ في قُلوبِهم، وأمَّا إن كان فرَحُه باطِّلاعِ النَّاسِ عليه لقيامِ منزلتِه عندَهم حتَّى يَمدَحوه، ويُعظِّموه فهذا مَذمومٌ. وفي صَحيحِ مُسلِمٍ عن أبي ذَرٍّ رضِيَ اللهُ عنه: “قيل: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ الرَّجلَ يَعمَلُ العملَ مِن الخيرِ ويَحمَدُه النَّاسُ عليه؟ فقال: تِلك عاجِلُ بُشرى المؤمنِ”، فأمَّا إذا أعجَبه لِيَعلَمَ النَّاسُ فيه الخيرَ ويُكرِموه عليه؛ فهذا الرِّياءُ المنهيُّ عنه.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:” أيُّها الناسُ، إيَّاكُم وشِرْكَ السَّرائرِ! قالوا: يا رسولَ اللهِ، وما شِرْكُ السَّرائرِ؟ قال: يقومُ الرَّجُلُ فيُصَلِّي، فيُزَيِّنُ صلاتَه جاهِدًا؛ لِما يَرى مِن نَظَرِ الناسِ إليه، فذلك شِرْكُ السَّرائرِ.”
والجهاد والصدقة وقراءة القرآن قد يدخلها الرياء… فدل ذلك على خطره وفظاعته وشناعته… وإليك هذا الحديث لترى خوف الصحابة من الرياء وعلى ضوء ذلك ترى المعنى الجليل الذي يورثه الصيام لأصحابه وهو الإخلاص.
روى مسلم والترمذي والنسائي عن شفي بن ماتع الأصبحي رحمه الله أنه دخل المدينة، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقَالُوا أَبُو هُرَيْرَةَ . فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ فَلَمَّا سَكَتَ وَخَلاَ قُلْتُ لَهُ أَنْشُدُكَ بِحَقٍّ وَبِحَقٍّ لَمَا حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَلْتَهُ وَعَلِمْتَهُ . فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَفْعَلُ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَلْتُهُ وَعَلِمْتُهُ . ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً فَمَكَثَ قَلِيلاً ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ . ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً أُخْرَى ثُمَّ أَفَاقَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ . ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً أُخْرَى ثُمَّ أَفَاقَ وَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ أَفْعَلُ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَعَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَهُ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ . ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً ثُمَّ مَالَ خَارًّا عَلَى وَجْهِهِ فَأَسْنَدْتُهُ عَلَىَّ طَوِيلاً ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي قَالَ بَلَى يَا رَبِّ . قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ قَالَ كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ . فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فُلاَنًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ . وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ قَالَ بَلَى يَا رَبِّ . قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ قَالَ كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ . فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلاَنٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ . وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ فِي مَاذَا قُتِلْتَ فَيَقُولُ أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ . فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلاَنٌ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ ” . ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ ” يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلاَثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ” . وَقَالَ الْوَلِيدُ أَبُو عُثْمَانَ فَأَخْبَرَنِي عُقْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَّ شُفَيًّا هُوَ الَّذِي دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا قَالَ أَبُو عُثْمَانَ وَحَدَّثَنِي الْعَلاَءُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ أَنَّهُ كَانَ سَيَّافًا لِمُعَاوِيَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ قَدْ فُعِلَ بِهَؤُلاَءِ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ بَقِيَ مِنَ النَّاسِ ثُمَّ بَكَى مُعَاوِيَةُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ هَالِكٌ وَقُلْنَا قَدْ جَاءَنَا هَذَا الرَّجُلُ بِشَرٍّ ثُمَّ أَفَاقَ مُعَاوِيَةُ وَمَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) فكيف بمن بقي من الناس … لا نجاة إلا بالإخلاص. فياللصوم من عبادة أسّها ولُحمتها وسداها الإخلاص وفي الإخلاص من النيران الخلاص. فيا رمضان:
نَبّهْتَ فينا أنفُسا وَعُقُولا … وحَلَلْتَ للخَيْرِ العَميــــــم رَســــــــــولاً
رَمَضانُ يا رَوْضَ القُلوبِ تَحِيّةً … خَطَرَتْ تَجُر إلى حمـــاكَ ذُيُولا
قدْ جِئْتَ مَرْجُوا لأكرم نَفْحَةٍ … تَذَرُ الفُؤادَ بسِحْرِها مَتْبــــــــــولا
رَمَضانُ حسبُكَ ما شَرُفْتَ بِهِ فقَدْ … فُضلت مِنْ رَبِّ السَّماء تفْضيلا
غَصَّتْ رِحابُكَ بالتُّقاة وَهَوَّمَتْ … فيكَ المَلائِكُ صعدا ونـــــــــــُزُولا
وتتابَعَتْ رَحَماتُ ربكَ شُرعًا … كالغَيْثِ فاضَ مُبارَكا مَقْبـــــــُولا
أَيامُكَ الغَرّاءُ طاهِرَةُ الرُّؤى … مِثلُ الحَمائِم تَسْتَحِتمُّ أَصِيــــــــــــلاً
وَجْهُ الحَياةِ على ضِفافِكَ مُشرقٌ … وأريجُكَ الذّاكي يَهُبّ عَليـــــــــــــــلا
تسْمو بهِ الأرْواحُ فَهْيَ طَلِيقَة … رَغِبَتْ إلى كَنَفِ الخُلودِ رَحِيــــــــــلاً
حَنَّتْ لمغْناها القَديم فلمْ تجدْ … إلا سَبيلَكَ للخُلودِ سَبيــــــــــــلا
نِبْراسُكَ الوَضاءُ يُعْلِنُ للورَى … شَرع السمَاءِ مُنَزَّلا تَنْزِيـــــــــــــلا
آياتُهُ الزّهْراءُ فيكَ تَلألأتْ … وَحْيًا يُقيمُ إلى الفلاح دليــــــــــلا
سادَتْ بِهِ حينَ استَقامَتْ أمةٌ … واعْتَزَّ مَنْ في النيرِ كانَ ذَليــــــــــلاً
قدْ كانَ مَدْرَسَةٌ تُعد أئمّةً … نَشأوا على النَّهْجِ القَويم عُــــــــــــــدولا
وكأنهمْ في اللهِ قلب واحِدٌ … يَحْيا بنِعْمَةِ ربِّهِ مَوْصــــــــــــــــــــولا
رَمَضانُ هلْ لي وَقْفة أستَرْوِحُ الذ … كْرَى وَأشُفُ طَلها العسُــــــــــولا
إنا لنَسْبَحُ في الهَجيرِ فَهَبْ لنَا … مِنْ ماءِ كَوْثَرِكَ العَزيزِ قَليــــــــــلاً
رَمَضانُ! هلْ لي وَقْفَة أَسْتَرْجِعُ الـ ـــــماضِي … وأرْتَعُ في حِماهُ جَذُولا؟
يَستَعْذِبُ الأملُ المعَذَّبُ رِحلَةً … تَخِذَتْ مِنَ المجْدِ التليدِ مَقيــــــــلا
أَبطالَ “بَدْرٍ” يا جِباهًا شُرِّعَتْ … للشمسِ تَحْكي وجْهَهَــــــــــا المصْقُولا
حَطَّمْتُمُ الشِّرْكَ المُصَعِّرَ خَدَّهُ … فَارْتَدَّ مَشْلولَ الخُطى مَخْــــــــــــــــــــــذولا
رَمَضانُ هذي مِنْ فُيوضِكَ رَشْفَةٌ … بَلَّتْ لأحْشاءِ الشَّجِيِّ غَليـــــــــــــلا
جِئْنا لنَنْعَمَ في لِقاكَ.. ونحتَفي … بكَ فِتْيةً عَرَفُوا الهُدَى وكُهــــــــولا
ولَكَ الجَوانِحُ رائحًا أَو غادِيًا … مَثْويً تَحِل به رِضًا وقَبُـــــــــولا