عشّاق الوطن / د عودة ابو درويش

عشّاق الوطن
وقف عاشق الوطن , كما كان يسمّي نفسه , أمام المرآة طويلا , يصلح من وضعيّة الربطة حول عنقه , تارة يسبل يديه , وتارة يشبّكها , ثمّ يمسّد على شاربيه , ويتحسس ذقنه المحلوق بعناية , حتّى لا يبقى أثر لشعرة واحدة بارزة فيه , يسوّي من القشاط الجلدي الذي بالكاد ينغلق على كرش بارز , ثمّ ينحني ناظرا الى حذاءه اللامع وبنطلونه المكوّي كحدّ السيف , ويتفقّد جهازه الخلوي بالطبطبة على جيبه الداخلي , يبتسم , ليرى انعكاس ابتسامته في المرآة , فاليوم حافل وطويل , سيزور بلدتهم فيه مسئول كبير , فبعد جولة له على مشاريع ستقام , وأبنية ستنشأ , يقام حفل فيه كلمات وأغاني وطنيّة , والحاجة هناك كبيرة لمن سيصفق بحرارة , ويهتف بصوت عال .
ركب المسئول الكبير , سيّارته الفارهة من أمام منزله الكبير , في عاصمة الدولة المحظيّة به وبأمثاله , يتبعها سيّارة أخرى فيها الحماية , وبعد ان انحنى له السائق والسكرتير , اللذان تلقيا تعليماته بتفّهم كبير , تهادت بهم السيّارة على طريق مستو , ما لبثت أن بدأت بالاهتزاز , بعد أن وصلت الطريق الصحراوي , وبّخ المسؤول السائق على قلّة درايته بالقيادة , فأجاب السائق بصوت خافت , انها الطريق يا سيدي , ثم أستدرك وحمّل نفسه المسؤوليّة , فالفرس من الفارس وقيادة السيّارة من السائق , حتّى لو كانت الطريق محفّرة , واستمرّوا برحلة عبر قرى بائسة كثيرة , كان المسئول يمط شفتيه اسفا على قلّة حيلة سكّانها وكسلهم .
وصلت السيّارتان الى الأرض التي سيقام عليها المشروع الكبير الذي سيشّغل اعدادا كبيرة من شباب البلدة الجالسين في بيوتهم من دون عمل , اللذين لا يتفهّمون جهد المسؤولين الكبار اللذين يبذلون قصارى جهدهم للبحث عن افكار سينفّذونها لخدمة أبناء المجتمع , وبدأ عاشق الوطن والمستقبلين يصفّقون بحرارة لمّا نزل المسئول الكبير من سيارته , بنظّارة سوداء لا يستطيع أحد من خلالها أن يرى لون عينيه , وضعوا له حجرا , تحته طين , مدّ يديه , حرّك الحجر قليلا في مكانه , صفّق الحضور كثيرا , وانطلقوا الى الاحتفال الكبير , تسلّم كل واحد منهم على باب القاعة , شالا بلون حطّة رؤوس رجال الوطن و أسدلوه على أعناقهم , ليستمعوا لكلمات تتغنّى بحب الوطن والحرص عليه , يتخللها تصفيق حاد وهتافات وطنيّه , ثمّ صعد المسؤول الكبير الى المنصّة ليدبك مع القرقة المحلّة على أنغام أغنية وطنيّة . .
قبل الغداء , زاحم عاشق الوطن الحاضرين , اللذين كانوا يستعدّون لالتقاط صورة جماعية , ليقف خلف راعي الحفل تماما , فهو سيضع الصورة في صفحته الشخصية, ليرى أصدقاءه , كم هو مهم , وبعد الغداء أقترب من المسئول الكبير , ليسلّم عليه , لكنه كان مشغولا بالحديث مع سكرتيره , فلم يعر اهتماما لليد الممدودة نحوه , وأخذ يسأل السكرتير , ان كان قد أتم تسجيل الأرض التي اشتراها له بالقرب من المشروع الكبير , الذي لم يرى النور لهذه اللحظة .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى