واقع المرأة روائياً من منظور أنثوي

هيا صالح – تبدأ رواية «لم يُسْتَدَلّ عليه»، للكاتبة الكويتية ميس العثمان بفصلٍ عنوانه «مقتل ضابط في سيارته»، يتضمن عرضاً لتقرير أمني حول انتحار أربعيني يعمل ضابطاً في وزارة الداخلية بطلقة صوّبها تجاه رأسه.. لغة التقرير واضحة ومباشرة، وهو ما يحفز القارئ لإشباع فضوله بالتعرف أكثر على «ملابسات» هذه الواقعة.
غير أن الصفحات اللاحقة في الرواية الصادرة عن (دار العين للنشر، القاهرة، 2011) تعِدُ القارئَ بسردٍ مكثّف أقرب للشعرية وذي إيحائية عالية، لا يشبهُ بلغته وحساسيته ما جاءَ في مفتتح الرواية. وهو مستوى يناسب أجواءَ رسالةٍ «معاتِبَة» من بطلة الرواية «هند» لحبيبها «عزيز» الذي تواعدت معه على التحرر من ثقل الجسد على الروح ومغادرة الحياة، وبينما ينجح هو في ذلك، مقرراً مصيره بنفسه بدلاً من أن يتركه للأطباء الذين يعالجون جسده المريض، تفشل هي قبل أن يتم «إنقاذها» وإيداعها في مستشفى للأمراض النفسية:
«كنتُ قد شققتُ تابوتي، وخرجت عائدة نحو الدنيا أحملها إرثاً جديداً/ ثقيلاً وتحملني!
كنتُ طوال تلك الساعات الضائعة هائمة ببلادةٍ ما بين أمنيةٍ/ وعدٍ بالخلاص وقضاء بالرجوع، معلّقة على ريشة ضخمة/ أسطورية تحلّق بي في سقف الدنيا.. ألاحق سديماً لامنتهياً، متخففة من طعم الأرض قليلاً، حتى أيقظتني تلك الوخزة المنشطة في كفي، وسرى مصل الحياة في جسدي!» (ص 17).
اختيارُ مستشفى الأمراض النفسية مكاناً لأحداثٍ مفصلية في الرواية، ينطوي على قصديّة، إذ هو الحاضنة الأمثل للبنية المتكاملة للنص الروائي القائم أساساً على استثمار الفعل الفانتازي إلى أقصى حدوده، بوصفه الفعل الوحيد القادر على خرق المنطق وتقويض المعقول، لتقديم رؤية مغايرة للعلاقة مع الطبيعة وما فوقها، ومع الذات والآخرين.. وتبدو الفانتازيا قنديلاً تضيء الرواية بها وجوه التناقض والتشظي واللاتوازن واللااستقرار الكامنة في البنية العميقة للحياة.
«هند» التي تصبح المستشفى مكاناً لإقامتها، تلجأ إلى الهروب من الواقع بالجنون بعد أن فشلت في الهروب منه بالانتحار مع «عزيز»، ويتبدّى هذا الهروب على شكل أفكار ورؤى وبوح وتداعيات، تقدم الواقع وفق تصورات غير مألوفة، تبدو، لذلك، عميقة جداً، تسائل وتحاسب وتدين..
الجنون هو ما يتيح للبطلة التعبير عن داخلها وتعرية الواقع بما فيه من زيف وخداع وكذب، وإذ ذاك، فإن الجنون بهذا التوصيف دلالة الوعي الحقيقي والعميق المتصالح مع الحياة بعيداً عن الرتوش والإضافات التزيينية، وربما يشكل في حالة بطلة الرواية (الأستاذة الجامعية في كلية الحقوق)، منجمَ الحكمة والتأمل والنظرة الفلسفية الباحثة عن حقيقة الأشياء وجوهرها، والقادرة على نقد المجتمع والعالم والنفس البشرية.. فكأنما الجنون منتج للمعرفة كالفلسفة تماماً، وإن استخدم كل منهما طرقاً وأدوات مختلفة، أو كأنه أحد أشكال الوعي المُشْقِي:
«حين رفضني عمي تيقّنت أن المستشفى ليست سوى أداة كبيرة للقمع.. أداة مثلى لابتلاع المؤذين ممن يحملون بين أصابعهم شوكة رفيعة شفافة ومؤلمة، توجع غيرهم وتغير مسارات حيواتهم.. إذن؛ فقد اسْتَحَلْتُ الآن رقماً واسماً وملفاً تختصر بهم حياتي.. صرت كبقعة جديدة انتشرت على رداء المكان، قدر لم يضلّ طريقه إليّ» (ص 26).
من هذا المكان، يتخذ السرد بضمير المتكلم اتجاهات عدّة، حيث الاسترجاعات والاستباقات الزمنية التي توضح حالة انشطار الذات التي تعيشها بطلة الرواية نتيجة أحداث مؤلمة عاشتها منذ طفولتها، وهي ترويها وفق مسارات عدّة، واقعية وذهنية وحُلمية؛ خليط عجيب من الذكريات والأحلام والهذيانات والكوابيس تدشّن عالماً مخالفاً لمنطق الواقع، وينطوي على الكثير من الدلالات السيكولوجية التي تؤشر على «محنة» البطلة/المرأة/الإنسان، في عالم لا يعرف الرحمة؛ حيث أقدم والدها، وهي لم تتجاوز العاشرة من عمرها، على حرق والدتها التي رفضت ارتداء الحجاب، لتنتقل الصبيّة للعيش مع عمها «مشاري»، الذي يُبعدها عن عالمه قدر مستطاعه، ويستأجر لها شقة مقابل شقته الصاخبة بالأمسيات، ثم عندما تتعرف على «عزيز»/ نافذتها المشرقة على العالم، يغادر حياتها، لتعيش مرارة الفقد بعده.
تستحضر بطلة الرواية حادثة موت والدتها في معظم مفاصل الرواية (حتى صورة الغلاف تشير إلى جديلة والدتها)، لتثبّتَ أثر هذه الحادثة في تشكيل مسار حياتها، التي كان الرجل المصدر الأوحد للمعاناة فيها:
«أبحث عن كل لعنات الله لأهيلها على رأسك يا أبي، لأنك بجنونك/أعصابك/انهيارك وغضبك وشكّك، حوّلتني من طفلة دافئة بحضن والدتها، إلى يتيمة تكبر قبل الأوان وتخشى أن تشيخ وحيدة. أنت بتهوّرك حرمتني من حديقة أمنياتي المشعّة، من والدتي التي نذرت حياتها/غربتها لأجلنا.. أنت وأنا. ثقبت قلبي بسوادك.. بسخام حرقك لجديلتها الشقراء السميكة التي أغوتك يوم رأيتها لأول مرة» (ص 29-30).
أما عمها «مشاري» الذي يضطر إلى إيوائها بعد أن أُودع والدُها السجنَ، فلم يشكل في وجدانها سوى خيط رفيع يربطها بالحياة، ويقيها ممن يحاول تلويث سمعتها، لكنه يتخلى عنها عندما تحاول الانتحار، لتصبح رهينة المستشفى بعد أن خلصَتْ إدارتُها أن «مشاري» «لم يُسْتَدَلّ عليه»، ووفق القانون في البلد الذي يحتضن أحداث الرواية (الكويت)، فإنه لا يُسمح بخروج أي مريضة من مستشفى الطب النفسي دون موافقة «ولي أمرها» واستلامها بشكل شخصي (ص 27). ليمثّل عدم الوصول إلى عم «هند» المسمارَ الأخير في نعش حريتها:
«تقفُ مقيداً على باب شقتي/عالمي الصغير، عابراً كسحابة تنوي أن تمطر ولا تفعل، بسؤال لا يجتاز العتبة حتى، وطبطبة كالصقيع على كتفي، وحده صوت جرس المصعد الواصل ينقذك/يسهل هربك وتتوارى عبر ظلفتيه، لتعاود الغياب في الدخان والنبيذ والرفقة التي تصلني عبر بابي الموصد جيداً، فتعكر تراتبية (تكتكة) ساعتي المنبه» (ص 39).
أما «عزيز» الذي تتعلق به «هند» –للمفارقة- بعد ملاسنة حادة بينهما، فهو مدانٌ أيضاً، إن بإرادته أو رغماً عنه، إذ يبعدها عن عالمه فور أن يصيبه المرض، ثم يتركها لوحدتها وقد غادر الحياة خاذلاً إياها.
وفي المستشفى يكون اسم الطبيب «عزيز» أيضاً، وتكشف خيوط السرد في الراوية أن «هند» تبدو على معرفة بطبيبها الذي تلتقيه لأول مرة ليشرف على علاجها: «رأيتُ رأساً مكتملاً، بفم صغير، وحاجبين هائمين وأنف ساكن وخدين أعرفهما جيداً، عينين غارقتين في الخشية البعيدة» (ص 35). وبينما لا يمكن للمتلقي أن يحدس إن كان «عزيز» المنتحر، هو نفسه «عزيز» الطبيب -فلا إشارة يمكن الركون إليها في هذه المسألة- فإن سياق أحداث الرواية القائمة على الخلط بين الواقعي والمتخيل، والمراوحة بينهما، يتيح رؤية الأمر من زاوية أن بطلة الرواية ابتدعت اسم طبيبها، وربما شخصيته أيضاً، إذ إن الطبيبة «حميدة» لم تأتِ في التقرير الطبي الذي يحتل الفصل الأخير من الرواية عن حالة «هند»، على ذكر الطبيب «عزيز»، ولم تُشر إليه بشكل من الأشكال، وكان يجدر بها أن تفعل لو كان موجوداً في حقيقة الأمر.
تطرح الرواية واقع المرأة العربية من منظور أنثوي يعيد تحليل الواقع وفق معطيات متعددة، يؤشر أبرزها على دور الرجل (الذكورة) –والمجتمع أيضاً- في مصادرة حياة المرأة؛ إرادتها، طموحاتها وأحلامها.. كما حدث مع بطلة الرواية، أو مع النزيلات الأخريات في المستشفى من مثل «عادلة» التي سرَقَ زوجُها أموالَها ثم اتهمها بالجنون:
«هل فكّر أحدهم كيف هي الأيام خلف هذه البوابات الكبيرة الموصدة بإحكام على تساؤلاتنا؟
نحن النسوة الفقيرات إلى البسمة/النسمة والحرية؟
من يعيد بوصلة تلك الأيام التي مزقتها جرثومة تسربت على مهل لعقولنا؟
أيامنا باردة ككفن جديد.. أيام لم تُستخدم بعد!
لا تلونها المعجزات الصغيرة ولا يذبذبها حدث طارئ، فلا يغير طعمها جرس للباب مفاجئ، ولا تعطرها باقة ورد مبهجة» (ص 46).
يتشبع النص الروائي ببنية لغوية يتمازج فيها السردي بالشاعري، مع لجوءٍ في أحيان كثيرة إلى الشَّرطة المائلة (/) التي تجعل من الكلمة اللاحقة شرحاً للسابقة أو توضيحاً لها أو بديلاً عنها، وهي تقنية لازمت الرواية في جميع فصولها واستطاعت التعبير عن القلق والترقب الذي تعيشه الشخصية الرئيسية (هند) التي تتمتع بحساسية وجدانية كبيرة، ومن هذا الفهم، يمكن قراءة مفاتيح الرواية وعناوينها الفرعية، ذات الطاقة التعبيرية والإيحائية، وكذلك الرسائل ذات الطابع العاطفي التي واصلت البطلة إرسالها إلى شخصيتين مفترضتين («ليلى» السعودية و»حسن» المغربي) منتظرةً الرد كل مرة، فيما هي في حقيقة الأمر لا تثبت عنوانيهما على المغلفات، كأنما ترسلها إلى المجهول.
«لم يُسْتَدَلّ عليه» (وهي الرابعة للكاتبة ميس العثمان بعد «عقيدة رقص»، «عرائس الصوف» و»غرفة السماء»)، رواية تنأى عن تقنيات الرواية التقليدية، وتصنع عالمها الخاص وفق تقنيات حداثية تمكّنها من طرح فكرتها الأساسية المتمثلة في أزمة التعبير عن الحرية التي تعيشها «الأنثى» بخاصة، ويعيشها الإنسان العربي بعامة، ويتم ذلك دون أن تثقل المقولات الفكرية والفلسفية على النص الفني الروائي الذي ظل متدفقاً بالحيوية.
هذه الرواية الجاذبة والممتعة منذ سطورها الأولى حتى منتهاها، تشكل رحلة قوامها الفقد والموت والعزلة والوحدة والعذاب وفقدان الحرية.. وهي إن تناولت تجربة إنسانية فردية، لم تغفل الصراع الذي يعيشه الفرد مع ذاته ومع الذوات المحيطة به، توقاً إلى تحقيق الحرية المنشودة. أليست رحلة البحث عن الحرية ينهض بها الأفراد بالأساس قبل أن تنخرط فيها المجتم

أ.ر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى