مضادات عربية للقراءة / خيري منصور

مضادات عربية للقراءة

لم يكن متاحا لي في صباي شأن معظم أبناء جيلي أن اختار ما أريد قراءته، لعدم وجود المكتبات وحتى الصحف في قرانا، التي كانت غارقة في ظلام ما قبل الكهرباء، لهذا قرأنا ما تيسر لنا بالمصادفة، لكنه لم يشبع رغباتنا وفضولنا حتى في الحد الأدنى، وحين عثرت على ديوان شعري بعنوان «أباريق مهشمة» لعبد الوهاب البياتي، بدأت الأسئلة شبه المحرّمة في الثقافة والحياة تتسلل إلى ذهني، وكان اكتشافنا لصنابير الماء في المدينة هو المعادل الموضوعي لما تهشم من أباريق وخرافات في حياتنا، ومنذ تلك الفترة وأنا مهجوس بالقراءة بما يتخطى كونها إشباعا لفضول، لإدراكي أن غيابها أو بمعنى أدق تغييبها في مجتمع ما هو أقصر الطرق لتجريف الوعي وتحويل الكائن إلى أداة طيّعة لأي سلطة، سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو معرفية، وذات يوم كانت عبارة ليست عابرة لجورج ستاينر قد أحدثت لديّ ما يشبه الانقلاب في فهم القراءة يقول، إن القراءة تغيرنا لأن فيها مخاطر عظيمة، فهي تضعف من شخصياتنا ومن إحساسنا بأنفسنا، ولا نعود قانعين بما تلقيناه أو حُقنّا به من إجابات ساذجة عن أسئلة إشكالية ووجودية بالغة التعقيد، ويضيف ستاينر هل يمكن للمرء أن يقرأ «آنا كارنينا» لتولستوي أو «البحث عن الزمن الضائع» لمارسيل بروست، بدون أن يدرك انبعاثا جديا في مشاعره الجنسية، وهل يمكن لأحدنا أن يقرأ «المسخ» أو التحول لفرانز كافكا ثم يستطيع النظر إلى نفسه في المرآة بدون إجفال، وقادتني هذه الهواجس إلى إصدار كتابين عن القراءة، تفصل بينهما بضعة عقود، الأول بعنوان «تجارب في القراءة» صدر ضمن مشروع الموسوعة الصغيرة في ثمانينيات القرن الماضي، والآخر «ثنائية الحياة والكتابة» وصدر عن دار الهلال في القاهرة قبل عدة أعوام .
ولم أكن في المرتين قد اطّلعت على تقارير أممية وإقليمية عن أحوال القراءة في العالم العربي، التي كانت صادمة لكل من أتيح له أن يقرأها، ومنها على سبيل المثال، أن العربي يقرأ ست دقائق في العام، وهي لا تكفي لقراءة فواتير الكهرباء والهاتف ورسائل الأصدقاء، ومنها أيضا أن ما بذل من جهد ووقت للبحث عبر الإنترنت عن مطرب ليس شهيرا بالقدر الكافي في العالم العربي هو أضعاف ما بذل من جهد للبحث عن منجزات عشرة مبدعين كبار بدءا من المتنبي وانتهاء بنزار قباني ونجيب محفوظ ومحمود درويش.
لهذا أخطأ من اختزلوا الأمية في النطاق الأبجدي، ما دامت هناك أميّة ثقافية وسياسية يعاني منها ملايين من تخرجوا من الجامعات، التي أصبحت أشبه بحاضنات لتفقيس الموظفين والعاطلين أيضا، وبدلا من مواجهة هذه الظاهرة ذات النتائج الكارثية على المدى الأبعد، أو المتوسط، انصرف المتخصصون إلى التوصيف وتداول الإحصاءات التي تعج بإشارات الاستفهام والتعجب.
وكنا نتمنى لو أن هناك بديلا أسمى للتوصيف، بحيث تصدر أبحاث ودراسات تفكك ظواهر أشبه بالاحجيات في حياتنا، ومنها عزوف الناس عن القراءة، وانصرافهم عن أي نشاط ذهني، وعلى سبيل المثال ظهرت في الغرب كتب ذات صلة بهذا الشجن المعرفي منها، «تاريخ القراءة ويوميات القراءة» لألبرتو مانغويل، وكذلك «القارئ العادي» لفرجينيا وولف، إضافة إلى كتاب بالغ الأهمية صدر عن دار غاليمار للنشر في باريس، من تأليف فريق من الكتاب الفرنسيين، وكان صدوره عن أشهر دار نشر فرنسية وضمن سلسلة كتاب الجيب، سببا في انتشاره الواسع، ومن خلاله تعرف القارئ بالفرنسية على علاقة أهم المبدعين بالقراءة من طراز جان جاك روسو وناتالي ساروت وستاندال، فالغرب أيضا مرّ بمراحل لم تكن للقراءة فيها أولوية، وهذا ما كان يشكو منه مبدعون مثل رامبو وهنري ميلر وغيرهما.
ويقول ميلر إن أمّه كانت تعيّره بالانصراف عن العمل إلى القراءة، وتقول ساخرة إنه يصنع الفاصولياء من الطين، ولأهمية القراءة في حياته أصدر كتابا تحدث فيه عن أهم مئة كتاب ساهمت في وعيه وتكوينه المعرفي، واعترف بأنه لو قرأ رامبو مبكرا لما كتب حرفا واحدا.
وقد يستغرب القارئ العربي وصفا طريفا للفيلسوف فريدريك نيتشة، قال عن القراءة، إنها فن المضغ ونموذجها البقرة، لأنها تقوم بعملية اجترار لما استقر في أحشائها، وكان الراحل هشام شرابي قد اعترف في مذكراته بأن عبارة نيتشة كانت دليله في القراءة بحيث يقرأ أكثر مما يكتب، بعكس ما يحدث الآن، فأعشار المثقفين ومن يتظاهرون بالتثاقف يتصورون أنهم أقرب إلى الماعز، يرضعون بضعة أشهر أو أسابيع ثم يصومون عن القراءة ليتفرغوا إلى إدرار الحليب.
إن الاستخفاف بالقراءة لا يتورط فيه سوى نموذجين من البشر، أحدهما ينكفئ داخل شرنقة، أو يعيش حياته كدودة في تفاحة عملاقة، والآخر هو الذي يختلط عليه الأمر بين المرايا والأبواب، ثم يتهشم رأسه وهو يحاول اختراق المرايا للخروج المستحيل من مداره المغلق.
إن صفة قارئ بالنسبة لفيلسوف مثل سارتر هي الأهم من كل الألقاب، وحين سئل هل هو فيلسوف، أم روائي، أم مسرحي أم ناقد؟ أجاب: أنا قارئ فقط لأنني ولدت بين الكتب وسأموت بينها أيضا، ولم يكن سارتر يعرف أن الجاحظ ولد من رحم مخطوطة ومات حين انهار رف المخطوطات عليه. إن إحصاءات التقارير عن أحوالنا المعرفية قد تكفي للكشف عن المسكوت عنه لكنها لا تقدم السبب الذي يبطل العجب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى