فلسطين وطنٌ قوميٌ لليهود!
أقرّ الكنيست الصهيوني، مشروع قرار «قانون القوميّة» الذي يؤكد قوميّة دولة الاحتلال، واعتبار فلسطين المحتلة وطناً قومياً لليهود، عاصمته القدس الكبرى، وهو ما يعني التنفيذ الحرفي للمشروع الصهيوني الذي أطلقه ثيودور هيرتزل، والتنفيذ الحرفي أيضاً لوعد بلفور، فماذا يتضمن هذا القرار؟
أولاً، يُعتبر هذا القرار استكمالاً لقرار ترامب اعتبار القدس عاصمة إسرائيل، وهنا بالذات وفي قانون القوميّة الجديد، يتم الإشارة إلى القدس «الموحّدة» عاصمة لإسرائيل، مما يعني إغلاق الباب تماماً على أي حديث حول مفاوضات حل الدولتين، أو التفاوض حول القدس الشرقية.
أما جوهر القرار، فهو اعتبار فلسطين المحتلة، وطناً لكل يهود العالم وأن من حق أي شخص يعتنق الديانة اليهودية، الحصول على حقوق المواطنة الكاملة والانتماء لهذا الوطن، مع تكريس الرمزية اليهودية الصهيونية التوراتية للبلد.
ففي الوقت الذي خفت الحديث فيه عن حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة وتقرير المصير، نجد أن القانون الجديد يكرّس حق توطين اليهود ولمّ شملهم من كافة أقطار العالم في وطن قومي واحد (تكون الدولة مفتوحة أمام قدوم اليهود ولمّ الشتات) وهذا هو التنفيذ الحرفي لما يعتقدون أنه وعد إلهي بمنح هذه الأرض المقدسة (أرض الرب) لنبيّه إبراهيم ثم لابنه اسحق وإلى ابنه يعقوب (إسرائيل) من بعده.
يضاف إلى ذلك تضمين القانون أحد البنود الذي ينص على أن ممارسة حق تقرير المصير في دولة إسرائيل يكون حصريا للشعب اليهودي، وبهذا تصبح هذه الدولة، دولة عنصرية تقوم في الأساس على الفصل العنصري، وعلى استئثار فئة واحدة في تقرير مصير باقي الفئات، بل وتكون لغتها (اللغة العبريّة) هي اللغة الرسميّة للبلاد، مع شطب الاعتراف باللغة العربية!
جميع ما ذُكر، له معنى واحد، مشروع جديد لتهجير الفلسطينيين، وطمس هويتهم الوطنيّة، ضمن دولة تُشرعن وتقنّن الفصل العنصري وتمارسه باسم القانون وباسم السلطة!
وضمن تشريع الفانون المذكور يحق للحكومة إقامة بلدات دينية خاصة بالمجموعات اليهودية وأبناء القومية اليهودية، دون تحديد المكان أو الزمان، بحيث يصبح اقتلاع الفلسطينيين (مسلمين ومسيحيين) من أرضهم إجراءً قانونياً بحكم هذا التشريع.
كما يشجع القانون على الاستيطان وتطويره، باعتباره «قيمة قوميّة»، وهذه النقطة بالذات تُعدّ المسمار الأخير في نعش مفاوضات حل الدولتين، حيث أصبح الكيان السرطاني المنتشر داخل الضفة الغربية، كيانا قانونيا بل وقيمة قومية عليا تسعى الدولة إلى تطويره، وهو ما يعتبر عائقاً أساسياً في وجه تشكيل أي دولة للفلسطينيين مهما كانت حدودها، حيث يتعذر حصولهم على مساحة خالية من المستوطنات.
من المفارقات الغريبة في هذا التشريع، هو الجمع بين «الشعب» الذي يمثل عدة قوميّات منصهرة في بوتقة شعب واحد، ثم حصر هذا الشعب بديانة واحدة، وهذا ما ينافي كل الأعراف الإنسانية والتاريخية بل والعلميّة.
فعندما نقول الشعب الأمريكي، يُفهم من هذا المصطلح جميع المواطنين الأمريكيين الذين تتنوّع أصولهم وعروقهم وديانتهم، لتشكل باقة من ألوان الطيف التي نتفق جميعاً على انها تمثل شعباً واحداً يجمعه قانون مدني يتضمن نصاً، حقوق المواطنة، وواجبات المواطن الدستورية، ولكن لم يسبق في أي دستور أو حضارة سابقة ولا حاضرة، أن أطلق لفظ شعب على اتباع ديانة!
فإذا قلنا الشعب المسلم، على سبيل المثال، فإن هذا المصطلح يصبح غامضاً ولا يدل على شيء بعينه، فكيف يمكن القبول بإن تجمع الديانة اليهودية أبناءها في شعب واحد!
هل عليـنا أن نؤمـن بـأن الـدم اليهوـدي الذي يجـري في أبـناء تلك الطـائفة يعـمل على صـبغهم بصيـغة وراثيـة واحـدة تجـمع بيـنهم بنــص ديـني!
المفارقة الأخرى، أنه ذكر (أرض إسرائيل) دون الإشارة إلى حدود تلك الدولة أو إلى أي تعريف يحدّد تلك الأرض، وهذا يُعيدنا إلى خرافات توراتية تتحدث عن الأرض الموعودة والتي تصل حدودها للنيل والفرات (الخطاّن الأزرقان اللذان يحدّان العلم الإسرائيلي).
لم يكن ليرى هذا التشريع النور لولا الدعم السافر الذي تتلقاه دولة الاحتلال من البيت الأبيض ومن ترامب وعائلته مباشرة، ولولا النزعة الفاشيّة الطاغية في العالم هذه الأعوام، والتي تتهيأ للانقضاض على الحركات التحررية والداعمة لحقوق الانسان.
إن العالم اليوم أصبح أقرب ما يكون إلى كيانات فردية مستقلة على شكل دول، لا هدف لها سوى التملك الفردي وزيادة النفوذ والسيطرة، على حساب كل القيم الإنسانية والحضارية، بل وعلى حساب حقوق المواطنـين الـذين ينتمـون لتـلك الدول.
لقد كثرت الدعوات القوميّة التي ينكر أصحابها على غيرهم، حق المشاركة والمواطنة والعيش المشترك، ويعتقدون أن من حقهم وحقهم فقط، العيش بسلام وأمن والتنعّم بخيرات البلد، رأينا هذا في فرنسا وألمانيا وأوروبا الشرقيّة، وفي بلادنا العربية أيضاً.
لقد اتخذ المرشحون للانتخابات الرئاسية في جميع بلدان العالم هذا الشعار، وعلى رأسهم ترامب نفسه، فما الفرق بين «أمريكا أولاً» وبين «فرنسـا للفرنسـيين» وبـين التشـريع اليـهودي الحالي!
بل إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وحالة التململ التي نراها في بعض البلدان ما هي إلا مؤشرات واضحة على تقوقع العالم على نفسه، وذوبان كل التحالفات الإقليمية وانكفائها على نفسها، وهذا مؤشرً خطير، يؤسس لمرحلة مقبلة لا تقل خطورة عن تلك المرحلة التي طالعناها على صفحات التاريخ والتي أسّست للحروب العالمية في القرن الماضي.
قادة إسرائيل يعرفون من أين تؤكل الكتف، متى يتحركون ويحتلّون المشهد ومتى ينحنون بانتظار مرور العاصفة، ولم يكن إقرارهم هذا القانون في هذا التوقيت بالذات مصادفة أو ناتجاً عن سوء توقيت، بل على العكس تماماً، إنهم يعلمون جيدا أن هذا هو الوقت المثالي لتمرير صفقتهم ومشروعهم التاريخي وأن كل الظروف المحيطة إقليميا وعربيا ودولياً، هي ظروف مواتية ومناسبة، بل وداعمة لمشروعهم!
دولةٌ تقوم على خُرافات تؤمن بها طائفة متطرفة أصولية، تدعمها طوائف ولوبيات متطرفة أخرى تتحكم في العالم، ويكون الناتج دولة مدنية تقوم على الفصل العنصري وتتلوّن بالصبغة الدينية، وتتبجّح بالديمقراطية وحقوق الإنسان!