غورنيكا بالأبيض والأبيض / خيري منصور

غورنيكا بالأبيض والأبيض

أربع سنوات فقط هي عمر الاحتلال الألماني في الحقبة النازية لفرنسا، لكن ما كتب ونشر ورسم وعزف في تلك الأعوام القليلة أصبح بمرور الزمن تراثا إنسانيا في المقاومة، لأن الكف لاطمت المخرز ولم تعجز، بسبب اكتشاف وظائف أخرى لها، منها الكتابة والرسم والنحت والعزف، إضافة إلى الضغط على الزناد، وما كتبه سارتر في مقالاته التي جمعها في كتاب بعنوان «جمهورية الصمت» عن الاحتلال يجزم بأن شرط الشعور بالفقدان هو الامتلاك، ومن لا يشعر بأن وطنه حرّ وينتمي إليه بكامل كينونته لا يعي ما ينتجه الاحتلال من إبادة معنوية وإعدام وجودي، لهذا قال في أحد مقالاته إن الفرنسيين أعادوا اكتشاف وطنهم تحت الاحتلال، لأن مجرد كتابة اسم فرنسا على حائط أو على ورقة كان يكلف الإنسان حياته، ولأن السايكولوجيا من صميم منهج سارتر الوجودي في قراءة الأحداث والظواهر، فقد كرّس فصلا من «جمهورية الصمت» لما سماه العميل أو الخائن، الذي تجسّد إلى حد ما في موقف المارشال بيتان وإعلانه جمهورية صغرى في إقليم فيشي في الجنوب.
وقد تنافس لوحة غورنيكا الفنان الذي رسمها في شهرتها، تماما كما نافس زوربا كازانتزاكي، ومدام بوفاري فلوبير، وهاملت شكسبير، وإن كان معظم من يعرفون الغورنيكا تعاملوا معها كنص مترجم من الفن التشكيلي إلى الكلمات، وبقيت عناصرها الجمالية، رغم كونها تراجيديا، حكرا على نقاد الفن التشكيلي، لهذا ينطبق عليها ما قاله عازف حين طلب منه أن يشرح معزوفته، فقال إن شرحها الوحيد هو إعادة الاستماع إليها، وبالمقياس ذاته فإن شرح غورنيكا أو أي لوحة أخرى لبيكاسو ودالي وغيرهما هو إعادة النظر إليها من مسافات مختلفة، كي لا تتحول إلى مجرد بقعة داكنة. إذا ألصق المرء أنفه عليها حتى تفلطح كما يحدث لطفل جائع وهو يلتصق بالواجهة الزجاجية لحانوت يبيع الحلوى، وما رسم عن الحرب الأهلية الإسبانية وضحاياها لم يقدم تنازلا فنيا لصالح التعبير المباشر، وهذا ما حدث أيضا في الشعر والمسرح والرواية، فقصائد أراغون وبول أيلوار عن المقاومة ليست مجرد أناشيد وطنية، وكذلك مسرحية «الذباب» أو «الندم» لسارتر والقصة الآسرة مجهولة المؤلف التي حملت اسم «فيركور»، وهي بعنوان «صمت البحر».
فالكتابة حتى لو كانت عن تراجيديا لا ترتهن للأبيض والأسود فقط، أو للأسود والأسود أيضا، وهذا ما أدركه الشاعر محمود درويش مبكرا حين كتب مقالته الشهيرة أنقذونا من هذا الحب القاسي، لأن النقد العربي تعامل مع نصوص المقاومة بعد عام 1967 كأبقار مقدسة، وكان بذلك يحاول التعويض عن قصور وطني ومعرفي، ونادرا ما قرأنا في تلك الأيام نقدا جديا حول أكثر نصوص المقاومة شهرة، لهذا لم يبق منها غير الصالح للبقاء بشروطه الجمالية والإبداعية، فالنوايا وحدها مهما حسنت لا تصنع إبداعا، والأدب الرديء يسيء إلى القضية التي ينحاز إليها، لأنه يقترض منها ولا يقدم لها شيئا.
وبالعودة إلى بيكاسو والغورنيكا علينا أن نتذكر أن بيكاسو كتب الشعر والمسرح أيضا، ولو أراد التعبير المباشر عن المشهد المركب الذي قدمه تشكيليا في غورنيكا لما رسم، لكن فقرالثقافة التشكيلية في عالمنا العربي، كما هو الحال في الثقافة الموسيقية، يتيح للبعض أن يترجموا اللوحة إلى نص أدبي وكذلك المعزوفة الموسيقية.
وكتب بيكاسو شعرا عام 1935 عن تجربة عاطفية لم يستطع التعبير عنها بغير الكلمات، وهذا ما أشار إليه فالاس فاولي في كتابه عن السيريالية، حين قال إن التجارب العميقة والمعقدة قد يصعب تحويلها إلى فن، وأحيانا يكون انتشاء المبدع بها حائلا دون البوح بها، وما يؤكد صحة ما قاله فاولي أن بيكاسو كتب مسرحيات في الحرب العالمية الثانية منها مسرحية بعنوان «الرغبة الممسوكة من ذيلها»، وشخوص المسرحية من طراز آخرغير تقليدي على الإطلاق، فالشخوص أو بدائلهم بمعنى أدق قدم كبيرة وبصلة وعاهرة وصمت وآلام نفسية رفيعة وآلام نفسية سمينة ومؤخرة مستديرة، وشبّه النقاد تلك المسرحية بإحدى مسرحيات الفرد جاري الجريئة، التي أحدثت ثورة في الفن المسرحي بلغ حدّ القطيعة مع الماضي.
وحين رسم بيكاسو بورتريه لسيدة فاجأته بالقول إن ما رسمه لا يشبهها، ولم تستطع أن تتعرف على نفسها فيه، فأجابها: ذات يوم سوف تشبهينها، وبذلك عبّر عن واقعية فائقة متجاوزة للأبيض والأسود وهي واقعية الممكن، وبهذا المعنى لم تكن غورنيكا عن الحرب الأهلية الإسبانية فقط، بل عن كل ما سوف يشبهها ويكررها من تراجيديات التاريخ البشري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى