رماد بلا عنقاء
كم من الشجاعة والوعي بالواقع والمناعة ضد النرجسية العمياء يحتاج المثقف العربي، أو من نطلق عليه هذه الصفة، كي يعترف بأنه يرقص مع ظله، وأن المونولوج الذي تورط به لا أحد يصغي إليه سواه؟ فثمة لحظات في حياتنا تتحول إلى اختبار عسير لفرز الوهم عن الحقيقة كما هي. ومنذ بضعة أعوام على الأقل والمثقف رهينة هذا الاختبار الذي يحاول التهرب منه ما استطاع إلى ذلك سبيلا لإدراكه أن هناك طلاقا بائنا بينونة كبرى، قد حدث بينه وبين الدور المنوط به، منذ لثغ بالحرف الأول.
ولأن هذا الشجن المزمن في عداد المسكوت عنه، فإن التواطؤ الصامت والخداع المتبادل بلغ ذروته، وأصبح بديلا للواقع، ذلك لأن المثقف هو آخر من يعلم بما يجري لبلاده وشعبه، ويصحو من النوم شأن جيرانه وكل الناس الأقل ادعاء بالمعرفة، على أخبار لا فرق فيها بين النشرة الجوية ومنسوب الحرارة والبرودة وحركة الرياح، وحرب أهلية أو مواقف سياسية أو حراكات شعبية، لهذا يسارع قدر الإمكان إلى اللحاق بها، سواء بالامتطاء، أو بالزعم بأنه كان زرقاء اليمامة التي رأت ما لم يبصره الآخرون، وتبدأ رحلة التأويل والتقــــويل لنصوص لعب الحدس فيها دور البطولة، والحقيقة أنه أقل من كومبارس، لأن لغتنا العربية هذه الإمبراطــــورية المترامية من المجازات والاستعارات، تتيح لمن يشاء أن يزعم بأنه حين كتب عن أنثى بهاجس ذكوري محض كان يعني الأرض، وأن يذهب في الادعاء إلى ما هو أبعد فيقول مثلا أن سطرا كتبه عن انفجار الغيظ المكتوم كان نبوءة بثورة.
كم من الشجاعة يحتاج المثقف الذي لا يزال على قيد الوعي والآدمية والافتراق مع القطعنة وثقافة الامتثال، كي يعترف بأنه ينفق ثلاثة أرباع طاقته كي يتجنب الربع الذي هو جحر الأفعى، أو عش الدبابير كما يقال. وحين اضطر الكاتب الراحل يوســـف إدريس إلى القول بأن كل ما هو ممنــــوح من حريات في العالم العربي لا يكفي كاتبا واحدا، كان على وعي بالحيلة التي يلوذ بها المثقف على إحدى طريقتين، طريقة الببغاء بحيث يردد الصدى، أو طريقة الحرباء التي تغيّر لون جلدها طلبا للنجــــاة، لأنها بالتماهي مع محيطها وإيهام الآخر بأنها جزء منه تتجنب الخطر.
في رواية «ثرثرة فوق النيل» يسأل أحد الشخوص الذين انتقاهم نجيب محفوظ بدراية وحصافة، ليمثلوا شرائح المجتمع كلها… متى ستحل هذه القضية التي يسمونها الشرق الأوسط، فيجيبه صاحبه المخمور: عندما ينشر في الصحف أنها حلت. وشخوص نجيب العدميون واللامنتمون، بدءا من الكاتب الذي خلع ضميره كحذاء ضيق، مرورا بالفنان المبتذل الباحث عن كل ما يوقظ الغرائز، وليس انتهاء بزوجة تحترف الخيانة، لم يعودوا محشورين بإرادتهم داخل عوامة، إنهم الآن على اليابسة أيضا، وفي كل مكان من هذه التضاريس المستباحة، والجغرافيا التي أصبحت مطلّقة التاريخ، بعد أن ضبطت متلبسة بعُريها، وأكلت حتى التخمة عندما جاعت بثدييها، لهذا فهي ليست حرة إلا باختيار زبائنها.
ذات مأزق تاريخي كهذا قال، جدنا المؤرخ ابن الاثير، إنه تمنى لو أن أمه لم تلده، وردد ذلك ابن أياس أيضا وهو يرى الجياع ينهشون لحم بغلة القاضي نيئا، والأمهات وهن يعجزن عن صد الكلاب عن لحوم أطفالهن في المهود، التي تحالف فيها السوس مع الجوع لإنجاز فضيحة يعف عنها ابن آوى، لكن ابن آدم تأقلم معها وأورثها لأحفاد أحفاده.
المثقف أو من يظن نفسه كذلك تبعا لمقولة الأعور في بلد العميان، كما في رواية ويلز الشهيرة آخر من يعلم بأنه يلعب الكرة أمام المرايا، بلا شبكة وبلا حكم، والأهداف التي يفرح بتسجيلها هي في مرماه، إنه دون كيشوت لكن بأداة أخرى غير السيف، وإزاء عدو آخر غير طاحونة الهواء، ويبدو أنه صدق نفسه عندما كانت واجهات الإعلام تفطن إليه كجزء من إكسسواراتها، وظن أنه فاعل أو مفعول لأجله، والحقيقة أنه مفعول به منصوب ومصلوب بألف فتحة وألف مسمار. والعاجز عن تغيير أبسط التفاصيل في محيطه الاجتماعي المحدود، والذي يخلع الثقافة كما لو أنها قبعة أو وشاح، عندما تأزف لحظة الاختبار، لن يكون بمقدوره تغيير مسار بعوضة تطن حول صدغيه.
إن هناك ما تجاوز الزبى بكثير في هذا الوقت الرمادي غير الموعود بأي عنقاء، وما تجاوز الزبى ليس الماء بل الدم، حيث ما من نشرة أخبار على مدار الساعة لا يتدلى منها أربعون أو خمسون أو مئة إنسان بلا اسماء، فهم مجرد قتلى، وهناك من يسقطون سهوا من العالقين بالجغرافيا المحتلة، والتاريخ الذي يواصل الشخير في قيلولته الطويلة التي تبدو بلا نهاية، فأي رياضيات أو لوغاريتمات ثقافية تلك التي تجعل حاصل ضرب عشرين كتابا لمؤلف واحد بصفر لتكون الحصيلة صفرا، وقد سبقنا ذلك البدوي الذي جاء يجرح وجه المدينة، كما تقول الناقدة خالدة سعيد، وهو محمد الماغوط حين افتضح المقايضة القومية التي تم بموجبها تسليم صقر قريش مقابل شاحنة قمح. فهل يظفر هذا المثقف الفائض عن حاجة بلاده وقومه بفضيلة الاعتراف بما اقترف من أوهام حين استبدل سيف دون كيشوت بالقلم.