حول البِرّ والإحسان / إحسان الفقيه

حول البِرّ والإحسان

«يُقال إن المنصور خلّف في الخزائن مائة ألف ألف وستين ألف ألف درهم، ففرَّقها المهدي، ولم يَلِ الخلافة أحدٌ أكرم منه ولا أبخل من أبيه».
ميزانٌ غريب يثير الدهشة، يُقوّم به ابن العباد في كتابه «شذرات الذهب» مسالكَ إنفاق الأموال العامة، فجعل مَن ترك الاحتياط لغدِ الناس مثلاً في الكرَم، وقاسَ إنفاق الأموال العامة التي ينبغي فيها الاحتراز والتدقيق، على إنفاق الأموال الخاصة التي تتْبع صاحبها.
لعلَّ هذا الفهم الذي تسرَّب إلينا عبْر القرون، يجيب عن التساؤل الذي لا ينقطع: أين ذهبت ثروات الشعوب؟ لماذا لمْ تستفِدْ منها الأمة كما ينبغي؟
الناظر إلى ثروات العالم الإسلامي العربي يُصاب بالإعياء من فرط التفكير في مآلها، فمعظم سياسات الإنفاق الحكومي في الأمة بعيدة عن الرشد، ولم ندعْ شيئاً تافهاً إلا وخُضْنا فيه بالأموال، وإضافة إلى ذلك تفتقر معظم الدول إلى المشروع الجامع الذي تُسخَّر له الموارد والطاقات، لتحقيق طفرة اقتصادية.
تسلّلت هذه النظرة وتلك السلوكيات من المستويات الرسمية التي تتشابك فيها العوامل الاقتصادية والسياسية والأمنية والدولية، إلى الصعيد غير الرسمي، الذي يتمثّل في الكيانات الاقتصادية المستقلة والخاصة، وأصحاب رؤوس الأموال الضخمة والمتوسطة.
ولْنجعل الدائرة تضيق أكثر فأكثر، ولْنَخصّ بالتناول، العمل الخيري والبذل والإنفاق في وجوه البر من قِبل أهل ذلك المستوى، سيتّضح من خلال استقراء واقعهم أن هناك خللاً في معظم سلوكيات الإنفاق، يَحدُّ من نفعه، ولا يسهم في تغيير الأحوال المعيشية لدَى مستحقي المعونة في الشعوب الإسلامية والعربية.
فمن ناحية، نلمَسُ تخَبّطاً بأولويات الإنفاق في وجوه البرّ، فعلى سبيل المثال: هناك ولعٌ شديد بالتوسع في بناء المساجد، فربما رأيت في كل حيٍّ مسجداً، علمًا أنه في معظم الحالات لا يكون أهل المنطقة بحاجة إلى مزيد من المساجد، إلا أن صاحبه يسيطر عليه تحصيل فضْلِ بنائها فحسب.
وقطعاً لم يكن هذا هو توجُّه النبي صلى الله عليه وسلم والصدر الأول، فلم يكن من شأنهم الاهتمام بالتوسع الزائد عن الحاجة في بناء المساجد.
ما أود إيصاله إلى ذوي الأفهام، أن الشريعة مبنَاها على مصالح العباد، فهل يُعقل أن يكون صالحهم في التوسع الزائد ببناء المساجد، في الوقت الذي يموت فيه البعض جوعاً وبرداً ومرضاً؟
أليس الأولى أن تُوجّه هذه الأموال إلى بناء المستشفيات ودور رعاية المسنين وكفالة الأيتام؟ ألم يكن الأجدر أن توجّه تلك الأموال لإغاثة اللاجئين المشردين عن أوطانهم بفعل الدمار والحرب؟ لعمري هذا ما تقتضيه مقاصد الشريعة، والمتأمل في مصارف الزكاة، لن يرى من بينها بناء المساجد مع عِظم ثواب بنائها.
صورة أخرى تُجسِّد النأْي عن فقه الأولويات بالنسبة للإنفاق في الخير، وهي حرص بعض الطيبين على أداء العمرة بصورة سنوية، وهو أمرٌ محمودٌ قطعاً، وجاءت السُنَّة النبوية بالحثِّ عليه، ولكن أليس الأولى أن يسعى مثلاً إلى بناء أسرة جديدة بمساعدة شاب وفتاة مُعسريْن على الزواج؟ أليس من أحب الأعمال إلى الله سرور يدخله على امرئ مسلم؟
كما نرى في سلوكيات الإنفاق في وجوه البرّ أنها لا ترُكّز على الحلول الجذرية لأزمات الفقراء والمساكين والمحتاجين، بل يكون البذل أشبَهُ بالمُسكّنات الوقتية، التي سرعان ما يزول أثرها.
هناك حكمة شهيرة ذات قيمة عالمية تقول: «لا تعطني سمكة، ولكن علِّمني كيف أصطادها»، فماذا لو انشغل أهل البر والإنفاق في الخير بتفعيل هذه الحكمة؟
ماذا لو بذل للمحتاج من فائض أمواله ما يُقيم به مشروعاً صغيراً يقتات منه؟ أو أشْرَف على تعليمه مهنة أو حرفة تكون له عوناً على الحاجة والفاقَة؟
وقطعاً لا أطالب بأن يكون هذا مَسلكا عاما يأتي على حساب الانتفاع الوقتي للمحتاجين، الذي يُذهب ببعض أزماتهم، وإنما المطلوب أن يكون هذا التوجُّه في الإنفاق حاضراً في ذهنية المحسنين وله نصيب من نفقاتهم.
ومن أبرز ما يغيب عن سلوكيات المنفقين في وُجوه البر، عدم الاكتراث بالمشاريع الاستراتيجية التي قد تُحدث نقلة نوعية في حياة الناس.
وحقًا رأس المال في أمتنا جبان، فعلى سبيل المثال، لم نَر لأصحاب المليارات والمُتنفِّذين توجُّهاً حقيقياً ورغبةً جادة في إقامة مشروع للدراما الهادفة التي قد تؤثر في الملايين وهم في بيوتهم، وربما نشّأتْ جيلاً على الفضائل والقيم، ويكون تياراً مضاداً للعفن الفني والدراما الهابطة.
كثيراً ما كتبت عن مثل هذا المشروع لقناعتي بأهميته في الوقت الذي صارت فيه الدراما شيئاً أساساً لدى كل الناس تقريباً.
الشاهد أن المحسنين من ذوي الأموال لا بد أن يكون بينهم تلاقٍ وتعاونٍ لاستثمار أموالهم في مشروعات استراتيجية ضخمة، يكون لها تأثير على المدى البعيد في الأمة، وعدم الاكتفاء بتحقيق النفع الآني الضعيف.
رأس المال القوي يتحكم في مصائر الشعوب ويصنع ما لا تصنعه الحكومات، بِحسْبِنا العلم أن نصف ثروات العالم بِحوْزة عائلة واحدة وهم «آل روتشيلد»، تلك الأسرة الألمانية التي تتحكم بأسعار الذهب في أمريكا وأوروبا، وإمبراطوريات الإعلام العالمي، أسهمت في إقامة دولة صهيونية في فلسطين، وموّلتْ بناء مستوطنات، فقط لأن لديها هدفاً وتوجُّهاً، وإدراكاً لعِظَم القضية لدى الصهاينة.
فهل مِن مُدكر…..
كاتبة أردنية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى