الإقامة في اللغة عن المنافي الأليفة
حين كتب إدوارد سعيد مذكراته وتأملاته في المنفى لم يجد أفضل من جوزيف كونراد ما يشبه القناع، ليس من أجل التماهي معه أو تقمص سيرته، بل لأنه النموذج الذي يجسد نمطا من الاغتراب الموحش، مقابل الذكرى الأليفة عن أيام الصبا، والبولندي الذي أتقن الإنكليزية ربما أكثر من أهلها، لم يستطع أن يقيم في اللغة أو يبني فيها منزلا، وكأن هناك ما يشبه جرحا في الهوية، ولا أدري كم ينطبق هذا على مهاجرين اجترحوا آفاقا في اللغات التي رطنوا بها في البداية ثم أتقنوها وعبّروا بها عن أنفسهم والآخرين أيضا، فجورج شحادة اللبناني الذي يصفه بواديفير في معجم الأدب الفرنسي بأنه أحد سادة التعبير في فرنسا، عاد ذات يوم إلى لبنان زائرا، وحين اتصل به أحد الصحافيين لإجراء حوار معه تكلم معه بالفرنسية، فرد عليه شحادة قائلا: أرجوك تكلم معي بلغتك، على الأقل هنا في بلادك، وما أنجزه كتّاب مسرح اللامعقول في فرنسا من ذوي الأصول غير الفرنسية غالبا ما يطرح مثالا للمنفى الأليف ودينامية الامتصاص التي تمتاز بها بعض المجتمعات التي قطعت شوطا كبيرا في التمدن، ومنهم يوجين يونسكو وآرابال وصموئيل بيكيت، وهم روماني وإسباني وأيرلندي، إضافة إلى نقاد أحدثوا ثورات كوبرنيكية في مجالات النقد، من طراز تودوروف وجوليا كريستيفا وآخرين. وأذكر أن الصديق الراحل جبرا إبراهيم جبرا كتب ذات يوم عن المهاجرين إلى لغة أخرى وسياقات حضارية مغايرة، أن لديهم من دوافع تحقيق الذات والجدارة ما يشحذ الإرادة كي يتفوقوا، وهو بالتأكيد واحد من تلك السلالة، لأنه مهاجر من فلسطين رغما عنه إلى بريطانيا ثم إلى العراق والقراءة التأويلية لروايتيه «صيادون في شارع ضيق» و»البحث عن وليد مسعود» تفضي إلى استنتاجات حاسمة تكرس ما قاله، وهنا لا بد من التذكير بأن الشعور بالاغتراب غالبا ما ينتجه الأخرون الذين تتشكل منهم الأغلبية والهوية معا. وهذا ما ذكره الراحل هشام شرابي قبيل رحيله، فهو عاش معظم عمره أكاديميا بارزا في أمريكا، ولم يسأله أحد ذات يوم عن أصله، لكنه بعد أحداث الحادي عشر من ايلول/سبتمبر عام 2001 فوجئ بموظف في مطار نيويورك يقول له أهلا، ليذكّره بأنه من أصل عربي، هكذا يمكن لكل الأشياء والمفاهيم في هذا العالم أن تنتج نقائضها، فالرجل الأبيض هو الذي انتج الزنوجة ليس كلون فقط، بل كموقف أخلاقي وثقافي كما قال سارتر في مقالة له عن الشاعرين سيزير وسنجور وكلاهما من إفريقيا.
إن ظاهر هذه الاستقصاءات قد يوهم القارئ بأن الإنسان يبقى حتى النهاية رهينة المكونات الأولى، لكنه في الحقيقة بخلاف سمك السلمون والتراجيديا المعروفة عن رحلته في الذهاب والإياب، وبخلاف طائر السمان الذي يستدرجه الدفء إلى شباك الصيادين الذين يرصدون عودته من الهجرة في الخريف.
الإنسان يعيد صياغة ذاته كلما تقدم في المعرفة والكشف والعمر أيضا، ويدرك أن المتاحف رغم كل ما تعج به من ثراء تاريخي وجاذبية للزوار لا تصلح للإقامة، وكذلك النصوص، فما من قصيدة تصلح مسكنا وما من لغة تصلح بمفردها هوية، رغم أن العربية قد تكون الاستثناء في هذا السياق، لأنها عرّبت أعراقا أخرى وكان للمرجعيات الدينية دور في هذا المزج العضوي بين القلب واللسان.
رغم أن المتنبي شعر بالغربة في شعب بوان بعيدا عن لغته، وشملت الغربة بالنسبة إليه القلب واليد واللسان والمثال المعاصر لقصور اللغة بمفردها في أن تكون هوية، هو ما قاله الشاعر الجزائري مالك حداد، وهو أن اللغة الفرنسية منفاه، وأنه لو نادى أمه بها لما ردت عليه، وبالعودة إلى إدوارد سعيد الذي أوصى بإحراق جسده ونثر رماده في سماء ضهور الشوير في لبنان وليس في القدس أو القاهرة أو نيويورك، نجد أن المكان في الذاكرة يتحول بمرور الوقت إلى زمان وقد يتلاشى بالمعنى المادي في تجليات يشوبها الكثير من الغموض.
وهنا أيضا يستوقفنا مفهوم الهجرة في الثقافة العربية فهو ليس مذموما على الدوام، بل قد يكون شرطا للفتح والعودة الظافرة لهذا يقول الشافعي: هاجِر تجد عوضا عمن تفارقهم . ويقول شاعر آخر:
سأرحل عن بلاد أنت فيها
ولو جار الزمان على الفقير
فالاستبداد احيانا يجعل المفاضلة بين الإقامة والمنفى لصالح المنفى.
وقد يكون اقتران الهجرات في التاريخ العربي بالنجاة أو المعرفة أو تعبيرا عن فائض الطاقة والطموح قد خفف من الإحساس بالاغتراب، ربما لأن الهجرات الأولى في الصحراء كانت بحثا عن أسباب الحياة ومقوماتها كالماء والكلأ، ولعلّ المثل الذي عاش عقودا طويلة والقائل حيث ترزق إلصق، هو التعبير الشعبي الدقيق عن المنفى الأليف، ولأنها ظاهرة إنسانية ووجدانية إشكالية يتعذر فيها التعميم، فإن التاريخ يقدم الأمثلة وما يناقضها لمن يشاء في هذا المجال، وبإمكان أي مؤرخ أن يستشهد بدموع صقر قريش عبد الرحمن الداخل حين رأى نخلة وخاطبها شعرا قائلا إنها غريبة مثله، ينتهي إلى أن المنفى حتى لو كان أندلسا لا يغني عن الملكوت حتى لو كان بيتا من الطين في بادية الشام.
إن ما يهدد الاندماج ويضاعف من الشعور بالاغتراب والمنفى الموحش هو الآخر، خصوصا حين يكون جحيما كما يقول سارتر وليس نعيما، والاغتراب يتطلب باستمرار من يذكر الغريب بما حلّ به، لهذا هناك تناسب عكسي بين ظاهرة الاغتراب وبين المجتمعات المتمدنة والتي يسود فيها القانون ومتحررة من اشباح ما قبل الدولة من قرابة الدم والعرق ، لكنه تناسب طردي بين المنفى الموحش وبين المجتمعات المحكومة بعصاب الهوية والنرجسية البدائية التي تغذيها الغرائز.
أخيرا أليس هناك منفى أشد وحشة وقسوة بالمعنى غير الجغرافي وفي عقر الوطن؟ وهل الهجرة القسرية تكون فقط إلى الخارج؟ سؤال يتولى الإجابة عليه الغرباء في هذا العالم والمهاجرون إلى الذات رغم أن إحصاءات اللاجئين والعالقين بالحدود لا تتضمن اسماءهم.