أزرق اليمامة / خيري منصور

أزرق اليمامة

تتلخص أمثولة زرقاء اليمامة في سردية ذات جذر اجتماعي وتجليات ثقافية وسياسية، فالرائي الذي يبصر ما لا يبصره الآخرون، يعاقب ثم ينتظر زمنا كي يعاد إليه الاعتبار، وزرقاء اليمامة رأت بخلاف الناس من حولها، ما وراء الأغصان، وهو الغزاة الذين حاولوا التخفي لكن بطريقة أخرى غير حصان طروادة، وإن كانت النتيجة في النهاية هي ذاتها، ولا بد لزرقاء اليمامة أن تستدعي في الذاكرة شهرزاد، التي دافعت عن حياتها بالسرد وكانت تؤجل حتفها على يد شهريار، لكن الفارق هو أن مذكر الزرقاء ليس كشهريار، إنه أزرق اليمامة أو الشام، أو أي مكان في تضاريس العرب، وأزرق الشام ليست له حكاية متوارثة عن حدة الرؤية، رغم أنه موجود ومتكرر في كل الأزمنة، فهو أحيانا الشاعر الذي شمّ عن بعد رائحة حريق أو زلزال تاريخي، ولم يصدقه أحد، أو روائي استبق الزمن بخيال سرعان ما أصبح واقعا بامتياز، أو حالم ضاق بما يحيط به فتصور يوتوبيا مضادة للديستوبيا التي يعيشها أهل عصره.
ولم ينجُ أزرق اليمامة من العقاب، لأن ما رآه سرابا ظن الآخرون إنه ماء يصلح للاغتسال والوضوء وإطفاء الظمأ، وما رآه غسقا تنعب فيه البوم، حسب وصف هيغل لغروب الحضارات، توهم الآخرون من حوله أنه شفق يعلنه صياح الديكة التي تنقر الليل كي يتسرب منه الضوء كما قال الشاعر لوركا.
أزرق اليمامة قد يكون الشاعر الذي أرسل من خراسان ما يشبه البرقية الشعرية إلى الوالي يقول فيها :
أرى خلل الرماد وميض جمر
ويوشك أن يكون له ضرام
وقد يكون خليل حاوي الذي اصطاد قلبه، كما لو أنه طائر الحجل الذي تجتذبه الأعالي حين رأى الغزاة يقتربون من بيروت عام 1982، وكان قد رأى عن بعد ما وراء الأغصان التي تمشي حين قال:
الجماهير التي يعلكها دولاب نار
من أنا لأرد النار عنها والدوار
عمّق الحفرة يا حفّار
عمّقها لقاع بلا قرار
وقد يكون صلاح عبد الصبور عندما تقمص النبرة اليسوعية في ديوانه «أقول لكم» وطلب من أبناء جيله أن يتحسسوا رؤوسهم لأنه عاش في زمن ركبت فيه رؤوس الحيوانات على أكتاف البشر، وقد يكون هذا الأزرق محمد الماغوط الذي قرر أن يخون وطنه، لكن على طريقته، فكانت خيانته للكذب والممالأة والامتثال وفقه الخضوع.
وقد يكون عبد الوهاب البياتي الذي كتب وصيته لابنه علي وقال فيها:
أخاف عليك يا فقري
أخاف عليك أن تُسرق
أخاف وأنت لا تدري
وانتهى إلى القول:
فقراء يا ولدي نموت
وقطارنا أبدا يفوت
وما حدث بالفعل هو أن لصوص التاريخ استطالت أيديهم فسرقوا الفقر والمطر والكرامة، وحوّلوا فائض الثورة إلى فائض استنقاع مثلما حولوا فائض الثروة إلى فائض تسول واستجداء، فكانوا ميداس الإغريقي لكن بطبعة عربية، لأن ميداس الإغريقي كان يلامس التراب فيحوله ذهبا، أما ميداس العربي فقد حوّل كل ما كان يلمسه من ذهب إلى تراب وحديد مغمور بالصدأ.
أزرق اليمامة العربي قرع أجراسا لم يصل رنينها إلى الطرشان ، وكتب وصايا لم يستطع العميان قراءتها، لهذا على محترفي التعميم والتعويم كي يبرأوا أنفسهم من كل ذلك الدم أن يفضّوا الاشتباك بين القبور، لأن فيها من صدّق أهله وكان الدليل الأمين. وفيها من خان الأمانة وشهد زورا وصدّق أن سعدا ينجو إذا تواطأ على هلاك أخيه سعيد. وإذا كان من كذبوا زرقاء اليمامة قد دفعوا ثمن ما غطى عيونهم من قذى وحجب عنهم الحقائق، فإن من تنكروا لأزرق اليمامة كان الثمن الذي دفعوه باهظا، لأن التاريخ أضاف إلى مديونياته الحضارية نسبة من الربا، وأوشك الفعل الماضي الناقص «كان» أن يصبح كاملا وتاما.
لقد كان بدر شاكر السياب أزرق الرافدين قد رأى على بعد نصف قرن الخيانة عندما تصبح توأما للعدم حين تساءل:
أيخون إنسان بلاده
إن خان معنى أن يكون
فكيف يمكن أن يكون
وانتهى رضيع جيكور إلى جنازة سار فيها أربعة رجال فقط تحت سماء ممطرة، ثم حاول من خذلوه إعادة الاعتبار إليه والاعتذار له، لكنه أخرج لسانه وقال:
الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام
حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق
ما أكثر الزرق، سواء في اليمامة أو الشام أو الرافدين وكل تضاريسنا، وما أقل الذين صدقوهم قبل فوات الأوان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى