”الحتروش” وصيحة أبي !
د. علي المستريحي
لا زالت صورة ذلك “الحتروش” قبل ما يربو عن أربعين عاما لا تغادر ذاكرتي .. أراها كل يوم ..
والحتروش هذا كان لديه قطيع غنم يرعاه، هو مهمل لا يبالي، والناس تعرفه بضميره الغائب .. عادة ما يلبس الحتروش الأسود، ومع الزمن تقلص فلم تعد تميزه عن أي شاة من قطيعه، أصبحت لا ترى سوى مرياع غنم، حمار بجرس يتدلى من رقبته، وغنم تسبح بأخطر بقعة انحدار تحت قمة جبل “المشماس” ..
كان أبي كلما التقى الحتروش حذّره (من باب النصيحة) ومن خطورة الرعي بتلك المنطقة ذات الانحدار الشديد والحجارة المتحركة، والأهم من ذلك ضميره الغائب. لكنه لم يكن يعبأ بالنصيحة، فالرعي وفير بتلك المنطقة الوعرة يسيل لها لعابه قبل قطيعه .. أما بالنسبة لضميره الغائب، فكان يجيب دائما: “انت ضميرك حي زيادة عن اللزوم”!
ذات مرة كنا نحصد الشعير بأرضنا المنبسطة عند بطن الوادي .. الجو صيفي حار، شاق وقاسي، ولا تكاد تسمع إلا صوت أعواد الشعير تتكسر بين أيدينا وطنين حشرة السيكادا المتفيئة بين أوراق شجرة البلوط الجافة الخشنة يملأ المكان .. و .. جرس مرياع الحتروش تحت قمة الجبل المقابل يتصدر القطيع والحتروش نفسه ..
فجأة انقطعت كل الأصوات، إلا صوت واحد: نعجة من قطيع الحتروش تتدحرج باتجاه أسفل الجبل بخطوطه المتعرّجة، ما أن تلقفتها صخرة الا ويدحرجها حجر، فتهبط من جديد باتجاه أسفل الوادي حتى استقرت دون حراك عند أقدام صخرة كبيرة بالثلث الأخير من الجبل عند أحد حوافّه ..
الحتروش يقف متكئا على عصاه المقوّسة أبلها مشدوها لا يبالي، والحمار يرفع أذنيه ويراقب .. وبقية أغنام القطيع تقف صامتة مثل راعيها لكن الأمر لا يهمها .. أما نحن، فكانت عيوننا ترحل بين الحتروش والحمار والنعجة .. هنا صاح أبي بالحتروش صيحة ردد صداها جوف الوادي: “كم حذرناك يا حتروش” .. أما الحتروش فظل يتظاهر بأن الأمر ليس مهما .. لكن النعجة رحلت نافقة فطسا ..
هبط الحتروش للنعجة، وبدأ يقلّبها، فلا حراك .. وبلحظة مباغتة طال موسه من تحت حزامه وبدأ بذبحها وهو يردد: “ذهب ..ذهب”! لكن أبي صاح به مرة أخرى: “ماذا تفعل؟ أأنت مجنون؟ النعجة متردية ولا يجوز أكلها” .. لكن الحتروش لم يلق للأمر بالا، وبدأ يجر النعجة باتجاه قاع الوادي على مراحل ولم يكف عن الترديد: “فستق .. حبات .. اللحمة الطرية .. فستق .. حبّات”!
في طريق عودتنا للبيت عند العصر قاطعين القرية من منتصفها باتجاه الجامع القديم، بدأنا نسمع قصّاب القرية “العجل أبو ليّة” ينادي: “الحق حالك .. اللحمة الطرية .. فستق .. حبات”! ثم رأينا جمهرة من الناس يهجمون هجوم الظالمين، منهم من اشترى، ومنهم من ينتظر وقد بدت عليه علامات الجدية بالشراء ومنهم من بدت عليه حسرة على “الفستق ولحم الحبات” .. أما الحتروش، فكان يستلقي على جانبه الأيسر على حصيرة من القش، يسحب من لفيفة دخان من طرف فمه المعووج ويتمتم: “الرزق الحلال .. فستق”!
لكن الحتروش عندما رأى أبي يقترب، انتفض واقفا مرتعبا كمن رأى القدر المستعجل وقد أتى ليقبض روحه .. توجه لأبي مهرولا مكسورا وقال له: “دخيلك .. السترة” .. إلا أن أبي صاح بالناس: “النعجة متردية.. متردية يا ناس”! سمع الناس صيحة أبي، لكن أكثرهم استمر بالتفاوض لإنهاء صفقة الشراء الرخيصة على عجل .. أحدهم قال للناس: “سيبوكوا منه” وآخر توجّه لأبي وقال له: “متردية متردية، كلها رايحة .. كلها متردية”! بعدها تنفس الحتروش الصعداء ودخلت “الحبات” بطون من اشتروها ..
رحل أبي صامتا وغادر الدنيا وخبا صوته .. وبعد أربعين عاما لا زالت صور ومشاهد بيع المتردية الرخيصة تتكرر .. ولا زال قصّاب القرية “العجل أبو ليّة” ينادي: “الحق حالك .. اللحمة الطرية .. فستق .. حبات”! ولا زال الحتروش حيا يرزق، بل صار له أعوان وخدم وحشم .. ولا زال هناك يجلس ممتطيا جانبه الأيسر على أريكة صنعت بترف، يسحب من لفيفة دخان فاخر من طرف فمه المعووج، يبيع المتردية الرخيصة ويتمتم: “الرزق الحلال .. فستق”! أما الناس، فلا زالوا يهرعون لكسب صفقات المتردية رخيصة الثمن، منهم من اشترى على عجل، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا .. لكنهم كلهم، كلهم، يلعنون الحتروش في سرائرهم ويشكرونه ويحمدون الله على كرمه كلما التقوه !
* القصة من نسج الخيال والشخوص تمثيليون ..