يحقّ لنا أن نخاف على الإصلاح، يا لجنة الإصلاح!
د. علي أحمد الرحامنة
نتمهّل ونتمعّن في الأَبعاد، حين يقول الملك إن أطرافا تعرقل مسار #الإصلاح #السياسي في المملكة، في لقائه قبل أيام قليلة برئيس اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، سمير الرفاعي، ورؤساء ومقرري اللجان الفرعية المنبثقة عنها وأعضاء مكتبها التنفيذي…
ونستمع باهتمام إلى حديث رئيس اللجنة، سمير الرفاعي، في الحلقة السابقة من برنامج “صوت المملكة”، فنستشفّ من الحديث عقبات وصعوبات وتباينات هامة مع تصريحات أعضاء في اللجنة، بل ورؤساء لجان فيها، على المنبر ذاته.
ويستوقفنا بازار توزيع #المقاعد النيابيّة، على ألسنة عديدة، بينها رؤساء لجان فرعية في اللجنة إيّاها، وشخصيّات، وقوى، وتيّارات، واتجاهات، في الدولة، والدولة العميقة، والمجتمع العميق… كلٌّ يريد أن يعود إلى “جماعته” فائزا منافحًا عن حصته وحصّة ربعه، حتى لو اقتضى الأمر طيّ صفحة الإصلاح، والاكتفاء من الغنيمة الوطنية، بالإياب الضيّق؛ الجهوي والعشائري والمصلحي الفردي، مع عمليّة تجميلية “عميقة” تمثّل جائزة ترضية، عنوانها الاكتفاء جوهريّا بقائمة حزبية وطنية مغلقة، وبنسبة محدودة ما أمكن من عدد مقاعد البرلمان…
وقبل هذا وذاك، نرى بوضوح أن عددا من المحاور المركزية الكبرى تتراجع، لمصلحة نوازع ضيّقة، بعيدة عن هموم الوطن الكبرى. وهذا الاتجاه يريد للأردن أن يواجه التحدّيات غير المسبوقة بشعارات “وطنيّة” الشكل، رجعية المضمون، وبحملات لا ندري مستوى تنظيمها، ولكننا نعرف بالفعل أنها معادية لأي إصلاح عميق وفعّال، وأنها ليست أكثر من مظاهر لعقلية استوطنها فكر لا يريد الديمقراطية، ويعادي التقدم، ولا يفهم الدولة المدنية وسيادة القانون والعدالة والمساواة إلاّ من منظور ضيّق ومدمّر، يتجلى بالإقليمية والجهوية و #العشائرية “السياسية”، وبالاستهتار بالدستور وأبسط مسلّماته، عندما لا يروق “منبت” أو لا تروق فئة أو طائفة أو جهة لأصحاب هذا النهج الخطير.
وأصحاب هذا النهج لا يرون ضيرا في أن يكون تمثيل بعض المناطق على المسطرة الجغرافية التنموية أضعاف أضعاف تمثيل مواطنين في مناطق “الديمغرافيا” (وهو الاسم الحركي للأردنيين من أصل فلسطيني)، ولكنهم يرون الضير كل الضير حين يُقال إن “توزيعا أكثر عدلا للمقاعد النيابية مطلوب من حيث هو مسألة وطنية ذات أولوية. إنه التناقض الفجّ الصارخ، الذي يكاد يطالب بدستورين في المملكة؛ واحد “لهم”، وآخر “للآخرين”… فأيّ منطق هذا؟ وإلى أين يودي بنا؟
لقد أجاب د. مروان المعشر في مقالة هامة له عن أسئلة غاية في الأهمية، حول قضايا الهوية الوطنية الأردنية… وأتفق معه تماما في هذا المجال، وهو يعفيني من تكرار مسلّمات في بنية الدولة المدنية المعاصرة والديمقراطية وألفباء الدستور (رابط المقالة: https://carnegie-mec.org/diwan/85071). وبما أمكن من اختصار، يوجز د. مروان المعشر “معضلة الهوية بأن هناك هاجساً لدى الكثير من الأردنيين من أصول شرق أردنية، بأن الهوية الوطنية الأردنية اليوم بحاجة لأن تكون هوية شرق أردنية خالصة، وذلك بغض النظر عن مكون أردني كبير من أصل فلسطيني ضَمن له الدستور الأردني مواطنة كاملة غير منقوصة حسب المادة السادسة منه، إلى جانب تطور الهوية الوطنية بين المكوّنين بعد أكثر من سبعين عاماً من التزاوج والتداخل الاجتماعي والسياسي”. وهناك هاجس لدى الكثير من الأردنيين من أصل فلسطيني، بأن المطلوب من هذا المكوّن انتماء لا تشوبه شائبة للدولة الأردنية، بغض النظر عن عدم عدالة التمثيل لا على مستوى مجلس الأمة أو الحكومة أو الجيش أو الأجهزة الأمنية. ويشعر هذا المكون بأن المطلوب منه التخلي عن مشاعره المشروعة نحو القضية الفلسطينية، ومعاملته معاملة تشكيكية تفترض أن تطلعاته الفلسطينية تتعارض مع تطلعاته نحو وطنه الأردن.
وينطرح “موضوع التوطين” في صيغة عجيبة، أو كما قال رئيس اللجنة الملكية، سمير الرفاعي في لقائه المُشار إليه على “صوت المملكة”: “كيف يتمّ توطين المواطن؟!”، وكما قال د. مروان المعشّر في مقالته: “أما التوطين، فهو مفهوم مغاير تماماً، ينطبق على من لا يحمل الجنسية الأردنية، ويُراد منه إنهاء الهوية الفلسطينية”. وهنا بالفعل تفترق المسارات: فإما هوية وطنية جامعة لكل أبناء الأردن وبناته، أو الغرق في غياهب فرقة وتأويلات واحتمالات مستقبلية، لا أحد يعلم كيف ستكون، ولكننا نعرف أنها تغلق باب الإصلاح، وتأخذ الأردن بعيدًا عن طموحات بناء الدولة الديمقراطية المعاصرة العادلة المنشودة، بل وربّما إلى ما هو أسوأ من ذلك بكثير. إن المطلوب حلولا متدرجة، ولكن إغلاق الباب أمام معالجة هذه المسائل الحساسة يعني ببساطة النكوص وتجاهل ما لا يمكن تجاهله أبدا.
والغريب-المفهوم تماما، هو أن الاتجاهات المحافظة الرجعية المعادية في الجوهر للإصلاح، لا تبدي الاهتمام المطلوب لقضايا بالغة الأهمية في سبر ما نريده من الإصلاح، وتعزيز الديمقراطية، ودولة المواطنة، وهذا يتضح أيضا، ويا للمفارقة، في مواقف أعضاء “بارزين” في “لجنة الإصلاح” نفسها… وتبدو هذه الاتجاهات أقل حماسة لضرورات الانفتاح الديمقراطي، ورفع سقوف الحريات، وعلى رأسها حرية التعبير، وتشجيع الأردنيين، والشباب والشابات منهم خاصة، على خوض العمل الحزبي-السياسي، في الجامعات ومواقع العمل، أنّى كانت. وبالله عليكم، وحتى لو تقدمت “نظريات الإصلاح” ومشروعاته وبرامجه أيّما تقدّم، وبقيت القبضة الأمنيّة، والخوف “المبرّر” من العمل الحزبي، على ما هو عليه، فما مصير كل تلك النظريات والمشروعات، بل والقوانين أيضا؟
لقد أدّت سياسات معينة طوال عقود ما قبل الانفتاح الديمقراطي إلى تهميش القوى المدنية التقدمية عموما، والقوى القومية واليسارية خصوصا، فيما كانت حركة الإخوان المسلمين ترفل في ثياب الرعاية الرسمية… والآن، صارت جماعة الإخوان المسلمين المصدر الأول (الوحيد حزبيا الآن!) للحذر الرسمي، وغاب الطرف الموازن للمعادلة الحزبية المختلة، وصار المطلوب إنعاش البيئة السياسية التي تتيح لكل القوى، وهي جميعها قوى وطنية، أن تعمل دون معوّقات، بل بمحفّزات عديدة، لعلّ من أهمها تشجيع العمل الحزبي والسياسي عموما في الجامعات، وهي في كل مكان في العالم الساحة الأولى والأبرز للمثقفين والسياسيين والناشطين الحزبيين، ودون هذا، يبقى الحديث عن عمل سياسي أو حزبي متطور في خانة التمنيات.
ومن أجل أن نتذكّر فحسب، قد يكون في اختلال التمثيل الديمغرافي إلى هذا الحدّ الفاقع الصارخ ورقة إضافية كبرى لجماعة الإخوان المسلمين، وحزبها -جبهة العمل الإسلامي، عبر بيئة خصبة يتمّ فيها تطييب خواطر من يشعرون بالمرارة من التهميش، دون حتى منبر شكوى، فيحصدون في القائمة الوطنية ما قد يستحيل تحقيقه في “الوضع الطبيعي المتوازن الذي يحمل الحدّ الأدنى من العدالة”، وهذا حقّهم الطبيعي في المنافسة الحزبية المشروعة تماما.
الأردنيّون عمومًا لا يزالون متمسكين بالأمل في أن تتوصل اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية إلى تحقيق حدّ جيد من الإصلاحات التي تضع هذا البلد على طريق النجاة والتقدّم، بهمّة أبنائه الطيّبين الوطنيين المخلصين. ومع ذلك، فإن المخاوف عديدة ومبرّرة، ويبدو أنه “يحقّ لنا أن نخاف على الإصلاح، يا لجنة الإصلاح”!