يحدث بعيداً

سميحة خريس – بعيداً عن المركز، في هدوء تام ومن دون إضاءة إعلامية ولا احتفاء ولا إعلان، يبني نخبة من المثقفين حراكهم المتواضع على قدر الإمكانيات. هذا ما يحدث في المحافظات، حيث الحماسة الذاتية هي الدافع الوحيد، وحيث الشعور العميق بالانتماء إلى الوطن هو المحرك.
وددت لو لم أقل “بعيداً”، فتلك مناطق محسوبة علينا، هي المواقع التي تربّى فيها آباؤنا، وهي جذورنا وامتداداتنا الأصيلة مهما طوّحت بنا الحياة في العاصمة أو خارجها.
لذلك يثير انتباهي كل نشاط ثقافي خاص يجري في المناطق التي تبدو مهمشة، وبين الفئات التي تبدو منفصلة عن الحراك المركزي. من هنا أسجل إعجابي بمجموعة الشباب الذين تمكنوا من اختراق دار السرايا في إربد، المتحف الذي كان سجناً في ما مضى، ليقيموا فيها منتداهم الخاص، وليجتمعوا كل أسبوع يناقشون كتاباً أو قضية ثقافية.
ورغم أن إربد لا تخلو من المؤسسات التي تقود العمل الثقافي، مثل ملتقى إربد الثقافي وفرع رابطة الكتاب الأردنيين والجامعات المنتشرة في الشمال، إلا أن لهذه المجموعة مدار مقالتي نكهةً مغايرة. إنهم فتية لا يقعون تحت خيمة المجاملة أو العرض السطحي للقضايا في حواراتهم الأسبوعية، بل يتفكرون ويحللون، ويطرحون آراءهم بجرأة واقتدار وثقة، هم بالأصح نواة طيبة لنقاد جدد متمكنين، وأدباء مميزين، وقراء جادين، يرمون حجرهم الصغير في بركة ساكنة ويصنعون مجتمعهم المثقف الخاص وسط انشغال الناس باللحاق بلقمة العيش.
هذا التميز الفكري الذي لمسته في جمع من الصبايا والشباب يجعلني أتساءل عن آليات الدعم التي تُهدر على مؤسسات لا تضيف إلى المشهد الثقافي شيئاً، كما تعزل المثقفين في المحافظات في أطر ضيقة. لماذا لا يتم الالتفات إلى نخبة تحاول أن تؤسس لفعل ثقافي حقيقي؟
لا يحدث هذا في إربد المدينة القريبة من المركز فقط، فلا بد أن محاولات المبدعين من الشباب الذين لا يجدون منبراً منتشرة في كل محافظة ومدينة وقرية، لكن سبل الالتقاء بتلك الطاقات مقطعة. لمست مثل ذلك الإحباط في معان، مدينة الثقافة الأردنية للعام الجاري. فالطاقات التي تعج بها المدينة لا يمكن حصرها، بالتحديد لدى فئة النساء المحاصَرات ببعد المسافة وضآلة الإمكانيات، حيث يحاولن خلق فرص لهن، وفتح أبواب ونوافذ يطللن عبرها إلى العالم، وحيث هن مميزات ومبدعات، لكنهن مغمورات بعيدات عن الأضواء والاهتمام الرسمي أو العام الذي يناله المثقفون والمبدعون في العاصمة.
ربما كان مشروع المدن الثقافية من أنجح المشاريع التي تقود إلى إطلالة على الوضع الثقافي في كل أرجاء الأردن، لكنه أيضاً مشروع مرتبط بمدة زمنية وجيزة يعود بعدها المثقفون إلى دائرة العتمة مرة أخرى، من هنا أقترح أن لا تنال منطقة لقب مدينة الثقافة قبل أن يقدم مثقفوها مشروعهم القادر على الاستمرار خارج الموسم، مشروعا استثماريا حقيقيا يبقى شعلة الثقافة ألِقة، ولا يجعل من ذلك العام زائراً طارئاً مَرّ فحييناه ومضى.

أ.ر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى